قبل أيّامٍ من الآن فقدَ السّوريون والسينمائيونَ العرب عامّةً المخرج نبيل المالح، الذي توفّي في دبي ودُفن فيها بعيدًا عن بلادِهِ التي أخرجهُ منها اختلافُهُ مع صنّاع القرار فيها على صيغة الحياة التي يريدونَ فرضَها على المواطنين -الناس- من خلالِ أساليبَ كثيرة، ومنها الموت! تبدو العبارةُ والفكرةُ هنا حاملةً تضادّها بذاتِها، حيثُ كيفَ يُمكنُ لعقلٍ بشريّ تخيّلُ أنّ نوعًا من الحياةِ يُفرضُ عبر الموت؟! ويحارُ المرءُ بعدَ وفاةِ المالحِ، وقراءة ردود الأفعال على وفاتِهِ، التي كادت ترقى لأن تُشكّلَ إجماعًا متّسقًا ومتوافقًا على قيمةِ الرجل الفنيّة، يحارُ فيما إذا كانت وفاةُ المالحِ تركت هذا الصّدى لشخصِهِ أم لموقفه السياسيّ من نظام الأسد؟! ثمّ يحارُ، في جدوى وفاعليّة سؤالٍ كهذا… مالنا إذًا، السينمائيُّ السوريُّ مات منفيًّا ودُفن كذلك.
لكنّ حالةَ المالح، هي المفتاحُ، في هذه السّطور، لربطِ ما جرى ويجري في سوريا بعمومِ الفنونِ، ومنها السّينما. هذا الاشتباكُ الحقيقيّ بينَ السياسة والفنون، يُمكنُ تسميتُه على هذا النحوِ في حالةِ المالح ومجايليه ومشاركيهِ القيمةَ الذين يُمكنُ اعتبارُهم نخبةً في مجالهم، أي أنهم لا يُشكّلون القاعدة بل الاستثناء، ذلكَ أنّ خلافهم مع النظامِ السوريّ كانَ فكريًّا سياسيًّا حتى مما قبلَ الثورة في حالاتٍ كثيرة، ولأنّ نشاطَهم ودأبَهم لربطِ مُنتجهم الإبداعيّ بالشّأن العام، كانَ آخذًا الشكل العموديّ، لا الأفقيّ، الذي يُمكنُ أن يشملَ الشرائح الأوسع من المجتمع. لكنّ الحال، أنّ الاشتباكَ والتقاطعَ الحقيقيّ والرابط الوثيق بين الفنون وبين الشّأن العام، ما كانَ ليتجلّى بشكلِهِ الواضح هذا، لولا الثورة السورية، لتصيرَ الجملةُ -توخيًّا للدقة والأمانة في آن- على نحو: الاشتباك الحقيقيّ بين الثورة السورية والفنون. ذلك أنّنا لو أردنا أن نُخصّصَ من الفنون السينما، لنقرأ في علاقتها مع الحدث السوريّ، لوجدنا أنّ الثورة فرضت على الإنسان السوريّ استخدامَ أساليبهِ الخاصّة والبسيطة، بداية الثّورة لنقلِ يوميّاتِ النّاسِ، ابتداءً من المظاهرات وانتهاءً بدفنِ الشهداء، عبرَ كاميرا هاتفه المحمول، أو كاميراتٍ خاصّة بدت بدائيّةً لفترةٍ ليست قصيرة خلال الانتفاضة. ولم يكُن هذا النّقلُ لما يجري، ذا مقصدٍ فنيٍّ حتمًا، بقدر ما كانَ يُقصدُ منه إيصالُ ما يجري صوتًا وصورةً إلى العالم، وما ظنّ أولئكَ الذين كانوا المصوّرين الأوائل لأحداث الثورة في البدء، أنّ ما يقومونَ بهِ قد يُؤخذُ ويُعرضُ على أنّهُ من فنون الثوراتِ أو الحروب في العالم كلّه. عكس ما جرى تمامًا، حيثُ بدأت الفيديوهات التي تتعلقُ بالثورة السورية تقتحمُ قنواتِ اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعيّ الأخرى، لتتبوّأ في مراحلَ من الثورة صدارةَ ترتيب المتابعة على هذه الوسائل.
ومع تشكّلِ هذا الإدراك، وجهودِ منظماتٍ وأفراد من أهلِ الاختصاص، بدا أنّ الناسَ أدركت معنى ما تقومُ بهِ، فدأبت لتحسينِ ورفعِ سويّتها التقنيّة، ليأخذَ ما تُقدّمهُ اسمًا آخر بعدَ أن كانَ محضَ «شاهدٍ أو دليلٍ»، ويصيرَ «مُنتَجًا» أيضًا. وبذلك، باتَ من الصّعوبةِ بمكانٍ الحديثُ عن الثّورة السوريّة من دونِ التطرّق للسينما، التي صارَ صنّاعُها -الأحياءُ منهم والأموات- رموزًا سوريّةً مغروسةً في الذاكرة الجمعية، مثل الشهيدين باسل شحادة، الذي قضى والكاميرا في يدهِ يصوّرُ فيلمًا أثناء حصار حمص وقصفها، وتامر العوّام الذي قضى في حلب بالطريقة ذاتها، وأسماء عديدة أخرى منها ما لم يُعرف، ومنها من ظهرَ وعُرفَ مثل زياد الحمصي ووئام بدرخان وطلال ديركي وآخرين، كانوا جميعًا يسعونَ من خلال السينما لنقلِ الحدث السوريّ فنيًّا إلى العالم أولًا، وللتعبير عن رأيهم ومقولاتهم الأخلاقية والسياسيّة إزاء ما يجري في بلادهم.
لكنّ آذار الذي يجيءُ مجددًا، حاملًا معهُ ذكرى انطلاقِ ثورة الكرامة في سوريا، يحملُ في طيّاتِهِ إحساسًا مدعومًا بالوقائعِ يقولُ إنّ القضيّة السورية لم تعد تتبوأ المركزَ ذاتَهُ في دائرة الاهتمام العالميّ، وإنها ستتراجعُ أكثرَ فأكثرَ إذا استمرّت على هذا الستاتيكو القائم، والمقصود غالبًا، الأمر الذي يجبُ عليهِ أن يدفعَ صنّاعَ الفنون والآداب عمومًا، والسينما في هذا السياق خصوصًا، إلى التفكير في أنّهُ لم يعد ممكنًا ولا مقبولًا اعتمادُ المُنتجِ على الحاملِ الثوريّ والقضيّة السوريّة ليصلَ إلى مرتبة مرموقة في العالم، ويتوجبُ علينا الاعترافُ أنّ جزءً ليسَ بالهيّنِ من حصاد الإعجابِ العالميّ بما قدّمهُ السوريّون خلال السنوات الماضية، كانَ سببهُ حاملُ المُنتَج لا المُنتَج نفسه. هذا الاعترافُ البدائيّ الصريح، قد يكونُ بوّابةً رئيسيّةً لتطويرِ العملِ الفنيّ بحيثُ يستحقُّ بذاتِهِ المنافسةَ والجوائز، لا لكونِهِ محمولًا على كتفي الشعارِ الكبير: الثورة السورية. وفي هذا تخلّصٌ ضروريٌّ من مظلوميّةٍ قد تستمرئها الفنونُ رافعةً لها. المظلوميّةُ التي نسعى جميعًا للتخلّص منها، وتبدو ذكرى الثورة في آذارَ هذا مناسبة لهذه الدعوة، التي تقولُ إننا مبدعونَ لا لأننا مظلومون، ونستحقُّ الحياةَ لأننا نستحقّ الحياة، لا لأننا لا نستحقّ الموتَ وحسب، شأننا في ذلك شأن الثورة السورية العظيمة، التي نحيي ذكراها معًا اليوم!
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024