يصعب على المرء أن يكتب عن قامة مثل نبيل المالح، السينمائي السوري الاستثنائي الذي رحل عن عالمنا قبل فترة وجيزة. ولدى التصدي لهذه المهمة، يحار أيكتب عن تاريخه السينمائي الحافل، أم عن شخصه الدمث اللطيف، أم عن إرثه في تعليم العديد من الطلبة، أم عن عدم خشيته من التجريب والابتكار، أم عن قلبه الذي أبى أن يكف عن النبض إلا وهو قلب شابّ لم يتجاوز العشرين رغم مرور السنين.
ولا نكاد نفهم رحيله إلا ويأتي عيد ميلاد سوريا الحرة الخامس. وليست المناسبة الثانية بأقل دفعًا إلى الحيرة من الأولى. فعمَّ نكتب اليوم؟ عن مأساة الموت والتهجير والشتات؟ أم عن فنٍّ أصيل جديد أنتجته المظاهرات؟ أم عن صمود الشعب السوري الأسطوري في وجه العالم كله؟
ثمة ترابط وثيق بين المناسبتين التقطه الصديق تمام هنيدي بدقة في مقالته لهذا العدد من مجلتنا. وينبع هذا الترابط من ارتباط السينمائي الراحل بسوريا، مكانًا ومجتمعًا وشعبًا. أفلام نبيل المالح لا تبتعد قيد أنملة عن معركة السوريِّ مع الحياة، عن معاناته مع الفقر كما في بقايا صور، عن حرمانه من الحق في الحب والتعبير الفني كما في الكومبارس، عن تسلُّط الطاغية عليه كما في فلاش، عن إبداعه رغم المصاعب والإعاقة كما في عتمة مضيئة، عن حق المرأة في الحياة بحرية وكرامة كما في غراميات نجلاء، والقائمة تطول.
تتقاطع المعاني بين الأفلام، فلا يخلو أحدها من الإشارة إلى موضوع الآخر. ويمتزج ذلك دائمًا مع صوت فنيٍّ أصيل، وتعبير جمالي متجدد لا يتهيَّب توظيف العناصر والأدوات التعبيرية من دون التخلي عن التزامه إمتاعَ المشاهد بما يقدمه. ويمتد ذلك إلى الأفلام التي لم يتمكن المالح من تنفيذها، وكان لي شرف الاطلاع عليها. عشية الثورة، كان يحلم بفيلم يروي حكايةً سوريَّةً تمتد من الشمال إلى الجنوب، وترسم بِحُبٍّ غير مشروط بانوراما سوريا بألوانها كافة، الزاهية منها والقاتمة. وبعد اندلاع الثورة، كان يحلم بفيلم يحقق المهمة المستحيلة المتمثلة في رواية حكايتها وتكثيفها.
وكما كان الفن السينمائي أداة نبيل المالح الأساسية، كان الفن الغنائي أداة الثوَّار الأساسية في إيصال صوتهم. ولئن كان نبيل المالح قد استقى أفلامه، بشكلها ومضمونها، من اليوميات السورية القاسية التي ألفها، فإن الثوار قد استقوا أغنيات وهتافات مظاهراتهم من تراث سوريٍّ ألِفوه، ووجدوا فيه تعبيرًا عن يومياتهم نفسها.
بهذا الارتباط السحري، يبدو جمال أفلام نبيل امتدادًا طبيعيًا، بل وبديهيًا، لجمال الثورة السورية وبهائها، بصرف النظر عن زمن هذه وتلك، فللأفلام وللثورة جذور عميقة وقديمة أخرجت نباتها وثمارها في لحظات مختلفة.
يريدنا العالم اليوم أن ننسى معجزة الثورة السورية الأخّاذة، وأن نراها حربًا أهليةً قبيحة لا ناقة “للسوريين العاديين” فيها ولا جمل، وإذا بالمظاهرات تعود بتماهيها الصوفي وغنائها الشجي لتصفع الطغاة والخاملين والمتعامين. ويذكِّر رحيل نبيل المالح، إن كان هناك من نسي، بأيام سوريا التي أنتجت، بمخاض صعب، هذه الثورة الإعجازية، وبأن ثورة سوريا، كما بدأت فعليًا قبل المظاهرات، ستستمر بعد سقوط الطاغية.
إذا كان لنا أن نعرِّف بنبيل المالح إثر رحيله، فما من تعريف أكثف وأدق من أنه ثائر سوري، رحل مع الراحلين، وبقي إرثه وأثره، كما بقي إرث مئات ألوف الشهداء وأثرهم.
رحم الله نبيل المالح، وحفظ الثورة السورية.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024