لم يشعر حسن بأن قيمته كإنسان تتفوّق على البقرة! فبعد موت بقرته الوحيدة في القرية، اضطربت حالته النفسية ليعتقد بأنه هو نفسه البقرة التي كانت تؤمّن له مكانة مرموقة بين السكّان فسعادته تتعلق بها، لكن هذا لم يكن حال حسن وحده، بل حال إيران خلال فترة حكم الشاه. واقع يجعل الأشخاص يشعرون وكأنّ الحيوان أعلى شأنًا من الإنسان.
يتناول داريوش مهرجوئي في فيلمه البقرة من إنتاج عام 1969 قصة حسن الذي يعيش في قرية إيرانية تعاني من الفقر والمرض وتعيش في خوف دائم من حصول هجمات ضدّها، مـصوّرًا مأساة الواقع بطريقة جعلت السلطات الإيرانية تصدر قرارًا يمنع عرض الفيلم بحجة أنه يسيء إلى صورة إيران الحضارية كما وصفها جهاز الرقابة التابع لشاه إيران يومها.
يمثل فيلم البقرة حالة فنية أسست لموجة سينمائية جديدة صنع بعدها المخرجون أفلامًا منحت السينما الإيرانية هوية خاصة تميزها عن غيرها، فصوّر مهرجوئي الفيلم كاملًا داخل القرية متأثرًا إلى حد كبير بالتيار الواقعي الذي انتهجته السينما الإيطالية منذ عام 1943، والذي يستند إلى نقل واقع حياة الفقراء والطبقة العاملة من خلال اختيار مواقع التصوير الحيّة والاستعاضة عن الأسماء اللامعة من الممثلين بأشخاص غير محترفين لأداء دور الشخصيات المساعدة أو حتى الرئيسية.
وحافظت السينما الإيرانية على تقديم الأفلام التي نالت اهتمامًا عالميًا، لا سيّما فترة السبعينات التي شهدت ظهور فنانين قدّموا العديد من الأعمال السينمائية التي تحاكي الواقع مثل عباس كياروستامي وبيضائي، كما استطاع سينمائيون شباب مثل محسن مخملباف وإبراهيم حاتمي كيا وجعفر بناهي ومجيد مجيدي وأبو الفضل جليلي نقل قصص الشارع بأسلوب يعتمد على البساطة يجعل المشاهد قادرًا على الانخراط بشكل كامل في القصة وجعله جزءًا منها.
ومع قدوم الثورة الإيرانية الإسلامية، عام 1979، عمت نظرة إلى السينما بأنها من رموز حكم الشاه، ففي هذه الفترة أحرق أكثر من 180 دار سينما، وطُبِّقت شروط رقابة قاسية منعت المخرجين من عرض القضايا السياسية الحساسة أو تناول المواضيع التي تتعلق بالجنس مثلًا، كما ألزمت الممثلات ارتداء الحجاب.
لكن قيود الرقابة المحكمة والظروف الصعبة التي يعيشها المخرجون الإيرانيون جعلت من تلك السينما أداة توثّق وتنقل واقع الحياة الذي يعيشه المجتمع الإيراني بأسلوب خاص وجريء، إذ يعتمد بعض المخرجين على تصوير الأفلام داخل إيران وتهريبها إلى الخارج، وهذا ما فعله المخرج جعفر بناهي بالرغم من اعتقاله لمدة ست سنوات لدى السلطات الإيرانية التي منعته أيضًا من ممارسة مهنة الإخراج عشرين عامًا بحجة الدعاية ضد إيران، كما تم اتهامه بأنه يعمل على صناعة فيلم عن أحداث ما بعد الانتخابات الرئاسية التي نجح فيها محمود أحمدي نجاد لولاية رئاسية ثانية.
لكنّ بناهي لم يرضخ لهذا الأمر وأكمل مسيرته الفنية ليصوّر آخر أفلامه تاكسي بوضع كاميرات سرية داخل السيارة استطاع من خلالها تقديم صورة عن الشارع الإيراني بطبقاته المتباينة وكأنه بذلك يتحدى السلطات التي منعته من التحدث إلى وسائل الإعلام، متطرقًا في هذا الفيلم إلى انتقاد الرقابة بشكل أو بآخر من خلال حديث يدور بينه وبين ابنة أخته ومحامية في حقوق الإنسان.
تناولت السينما الإيرانية مختلف المواضيع التي تمس الحياة اليومية للمجتمع الإيراني، فيتّبع أصغر فرهادي أسلوب المسرح الكلاسيكي القديم بفيلمه انفصال عام 2011، الذي يعرض قضية الطلاق وصعوبة الظروف المحيطة بها، التي تتعلق بأسباب دينية أو تُحكَم بتقاليد وأعرافالمجتمع، وحاز انفصال على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي، حيث عالج الموضوع بأسلوب سينمائي يعتمد على البساطة كحال أغلب الأفلام الإيرانية، كما استخدم أسلوب الكاميرا المحمولة التي منحته مرونة في الحركة ظهرت أيضًا في أفلام أخرى له مثل الرقص في الغبار (2003) والأربعاء الأخير (2006).
أما عباس كياروستامي فيعوّل على شخصيات من الواقع لبناء أفلامه. ويشرح طريقة إعداده للعمل بقوله: «لم أضع يومًا سيناريوهات كاملة لأفلامي، بل خطًا عامًا وشخصية رئيسة في رأسي، ولا أبدأ تصوير أي شيء إلا حين أجد هذه الشخصية في الواقع. حينها أراقب هذه الشخصية أثناء حركتها ومُعايشتها للحياة، ولا أضيف على ما تفعله إلا بضع تفاصيل وملاحظات، لذلك فأنا أقترب من شخصيات أفلامي وأسافر عبرها ولا أجعلها تتحرك من خلالي».
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024