شكل الفيلم الخام العنصر الأساسي في صناعة السينما، كونه كان الوسيط الوحيد لنقل الصور المتتالية من الواقع إلى الشاشة، و لم يكن التعامل مع هذا الوسيط بالأمر السهل، فالفيلم قبل التظهير كالجنين قبل الولادة بحاجة إلى العناية الفائقة إلى حين وصوله إلى المختبرات و تحميضه. وحينها فقط يستطيع صانعو الأفلام الاطلاع على نتاج عملهم ومعاينته، والتشاور بشأن نجاح المهمة أو فشلها.
أواخر القرن الماضي، أصبحنا على تماس مباشر مع مصطلحات تقنية تبشر بفتح مبين في عالم السينما، حيث تم إطلاق العديد من الكاميرات الرقمية القادرة على التصوير بدقة عالية تقترب من دقة الفيلم الخام، الذي ما زال يتربع على عرش الصورة المفضلة لدى الخبراء و المحترفين. كانت الكاميرات الرقمية بداية صعبة المنال، نظرًا لارتفاع سعرها، الذي اقترب من سعر كاميرات الفيلم الخام. لم يقتنع الكثيرون وقتها بخوض غمار تجربة السينما الرقمية وكانت مواقفهم تلك مبررةً نظرًا لارتفاع السعر وصعوبة تخزين المقاطع المصورة بدقه عالية، بالإضافة إلى ضرورة وجود كومبيوتر بمواصفات عاليه جدا لمعالجه الفيلم الرقمي.
لم يمنع ذلك كله أصحاب المشاريع الجريئة من خوض غمار هذه التجربة، والمثال الأنضج هو فيلم Russian Ark لمخرجه ألكساندر سوكوروف، والذي غامر في مشروعه هذا باستخدام التقنية الرقمية. لكن ما ميز التجربة أنها لم تكن سطحية، أو لمجرد استخدام التقنية فقط، بل كان اختيار فيلم ما كان له أن يُنفَّذ لولا كاميرا السينما الرقمية، إذ يستمر الفيلم في مشهد واحد بلا انقطاع يروي التاريخ الروسي من خلال التجول في متحف الأرميتاج برفقة الراقصين والراقصات في رحلة حالمة استعادية. عززت التجربة أهمية هذا المجال الجديد، وأثبتت فكرة أن التقنية يمكن أن تخدم المشروع و ليس العكس. إلا أن البطلين الحقيقيين في هذا المشروع الطليعي هما مديرا التصوير برنارد فيشر وأناتولي راديونوف، اللذين عملا تحت قيادة مدير التصوير تيلمان بوتنر. وقد عمّق الثلاثة التجربة من خلال المحاولات المتواصلة لإيجاد الحلول التقنية المناسبة لتصوير الفيلم كما أراده المخرج، حيث تم تطوير وسيط للتخزين بإمكانه التسجيل لمدة 100 دقيقة، وتم إلحاقه بالكاميرا على عربة منفصلة يتم جرها خلف المصور. وبعد أربع محاولات فاشلة، أُنجِز الفيلم و كان علامة فارقة في تاريخ السينما الرقمية.
https://www.youtube.com/watch?v=J–TDEHizVA
بعد ذلك، تم إنجاز العديد من الأفلام السينمائية الطويلة باستخدام التقنية الرقمية، ولاقت تلك الأفلام قبولًا لافتًا في أوساط النقاد والمشاهدين على حد سواء. وفي بعض التجارب الأولى، ما كان للمشاهدين معرفة أن هذه الأفلام صُوِّرت بكاميرات رقمية عوضًا عن كاميرات الفيلم، لولا أن أصحابها أنفسهم صرّحوا، على سبيل الدعاية الإضافية لإنتاجهم. ولكن هذا النوع من الترويج سرعان ما خبا وهجه نتيجة تحول الموضوع إلى أمر اعتيادي، وتحولت بعض أكبر شركات الإنتاج بشكل شبه الكلي إلى عالم السينما الرقمية، والسبب الرئيسي هو انخفاض تكاليف الإنتاج وسهولة التعامل المادة الرقمية، ما أدار عجلة تطوير التقنية وتشجيع الاستثمار الكبير في هذا المجال. وأدى هذا بدوره إلى تطوير الشركات التقليدية، مثل سوني وباناسونيك، لكاميراتها لتصبح جاهزة للسينما الرقمية، وظهور شركات جديدة تخصصت في صناعة هذه الكاميرات، مثل شركة ريد RED وفانتوم Phantom، ومسارعة شركات متخصصة في صناعة الكاميرات السينمائية التي تستخدم الفيلم إلى صناعة كاميرات سينما رقمية، وعلى رأسها آري ARRI وبانافيجن Panavision.
من جهة أخرى، تطورت كاميرات التصوير الفوتوغرافي الرقمية بشكل هائل، وأضيف لها إمكانية تصوير الفيديو بالدقة العالية HD، ما دفع بالعديد من المغامرين إلى استخدام هذه الكاميرات لتصوير مشاريعهم. وتحققت بعض النتائج المبهرة على الصعيد الفني، ولم تنتقص التقنية من جودة المحتوى على صعيد الفكرة والمعالجة، لا بل استطاع الكثير من هذه الأفلام انتزاع جوائز عالمية. ومن الأمثلة على ذلك المسلسل التلفزيوني House M.D, و الذي غامر منتجوه بتصوير إحدى حلقاته على كاميرات كانون الفوتوغرافية الرقمية، منذ عام 2004، وأجزاء من فيلم Black Swan لمخرجه دران أرنوفسكي والعديد غيرها.
ومع ظهور الموبايلات المزودة بكاميرات عالية الجودة، انتشرت حمى صناعة الأفلام في صفوف الهواة، وانطلقت مهرجانات جديدة متخصصة في سينما الموبايل، ما أدى إلى انفجار الإنتاج، فأغرقت الأفلام المنجزة مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات عرض الفيديو مثل يوتيوب وفيميو، كما شاركت جنبًا إلى جنب في الترشيحات لجوائز المهرجانات التقليدية. ولعل المثال الأفضل على ذلك هو فيلم tangerine الذي تم تصويره بالكامل باستخدام Iphone 5 وكان على قائمة الترشيحات في مهرجان سندانس الشهير.
خلال الثورة السورية لعب الموبايل دورًا أساسيًا في نقل الأحداث إلى العالم الخارجي، ومن ثم تم استخدامه جنبًا إلى جنب مع الكاميرات المتوافرة بين أيدي الناشطين لإنتاج أفلام وثائقية عن القضايا المستجدة، ما عزز دور الفيديو كوسيط لنقل الحدث وليس فقط الصور الثابتة.
تنبهت شركات تصنيع الموبايلات العملاقة إلى أهمية الكاميرا المدمجة ضمن أجهزتها، فدفعت بالتقنية المستخدمة إلى الأقصى، حيث بتنا نرى اليوم موبايلات مزوده بكاميرات قادرة على تصوير الفيديو بدقة تصل إلى 4K، و هو ما يوازي قدرة الكاميرات الاحترافية غالية الثمن.
يولد العمل السينمائي كغيره من الأعمال من تضافر العديد من الجهود، كل باختصاصه، لكي يصل إلى المتلقي بأبهى صورة، وبالتالي فان أي تقنيه تساعد على خفض كلفه الإنتاج بالمجمل مرحب بها. السينما هي السينما، هي ذلك الواقع الافتراضي، الحلم المتجسد، ولا يهم إن كان المنجز النهائي قد تم تصويره على جهاز موبايل أوكاميرا سينمائيه 35 ملم. المهم هو الأفكار.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024