العودة إلى حمص: الشجاعة التراجيدية

maxresdefault

 

يقدم طلال ديركي في فيلمه العودة إلى حمص شهادته على تحولات الثورة السورية في عاصمتها حمص من خلال بطله عبد الباسط الساروت وشخصية أخرى أقل حضورًا ولكنها ذات تأثير كبير وهي شخصية أسامة.

the-return-to-homs-sundance-1

عبد الباسط الساروت الذي يبدو في الفيلم بطلًا تراجيديًا حقيقيًا، يواجه الخيارات الصعبة لأنه لم يعد قادرًا على التراجع، يشعر رغم صغر سنه أنه مسؤول عن مدينة بأكملها، يحمل السلاح وهو الذي لم يكن مؤمنًا به كخيار، يتحول إلى قائد رغمًا عنه، يقاتل، يسعف، يدفن أصدقاءه، ويبني سورًا حول نفسه يمنعه من الانهيار والبكاء كطفل، ويتحول أيقونة وبطلًا فيما هو حقًا متعب، مرهق. تناقضات نجح الفيلم في نقلها وتصويرها، كما نجح أن ينقل من خلال الخط البياني لشخصية الساروت، كم الخيبات والخسارات التي مني بها شباب الثورة، فهو الذي كان في بداية الفيلم مرحًا، لا تفارق الابتسامة وجهه، يتحول في نهايته إلى شاب متجهم، ينعي رفاقه وينقل أخبار استشهادهم إلى من خرجوا. ولكنه لا يتزحزح لحظة طوال الفيلم عن إيمانه بأنه على حق، وبأن مطلب شعبه الذي انحاز إليه بالحرية والكرامة هو ما يجب أن يكون، ويقوده إيمانه هذا وشجاعته النادرة إلى التمسك بخياراته حتى وإن أجبر عليها.

أما أسامة فهو ذاك الشاب الرقيق، الذي لم يحمل سوى كاميرته، لم يرغب بالانخراط في العنف، وبكى كل الشهداء.
يصور لنا الفيلم أسامة وهو يحضر جنازات متعددة، ويداري دموعه عن الكاميرا. أسامة المعتقل، الذي انقطعت أخباره، بعد أن أصيب بشظية هاون، يصور طوال الفيلم مدينته التي دمرت، وتفاصيل حياة أصدقائه وتحولاتهم.

 

return-to-homs

 

ينجح طلال ديركي رغم كمية المواد المصورة لديه على مدى سنوات ثلاث، في أن يحبك فيلمًا متماسكًا، يروي حكايته ببساطة وسلاسة.  يختصر الفيلم في دقائقه الأولى المرحلة الأولى من الثورة السورية، المرحلة السلمية، وتحول عبد الباسط  من حارس كرة قدم إلى نجم المظاهرات بفضل الأهازيج التي يغنيها. ومن ثم ينقل لنا انتقال هذا الشاب الشجاع من الخيار السلمي إلى المسلح، بسرد بصري يترافق مع تهدم “موقع تصوير” الفيلم تباعًا، ألا وهو مدينة حمص.

 

يخطر لك وأنت تشاهد الفيلم سؤال، ترى ماذا كنت سأشعر لو كنت ابن هذه المدينة؟
في لقطة طويلة يسير خلالها المخرج وهو يصور خلف أحد الشباب، من خلال البيوت التي فتحت بينها فتحات لحماية المقاتلين من القناص، تتقاذفك الأسئلة، ترى كيف سيشعر أحدهم إن كان أحد هذه البيوت بيته؟ هل سيسعد لأنه شاهد لمحة من بيته؟ أم سيغضب لأنهم حفروا جداره؟ أم سيفرح لأن الثوار احتموا به؟ أم سيخاف من عقاب النظام لأن الثوار مروا من داخل بيته؟
في مشهد آخر، يقوم سائق بإيصال المخرج وأسامة من مكان إلى آخر، دون أن يشعل ضوء السيارة خوفًا من القناص، وهنا يخطر لك، ترى، هل يسترجع كل من مر بهذه التجربة نفس خفقان القلب كلما شاهد هذه اللحظة؟ هل تتراءى له أشباح القناصين وأصوات الرصاصات المرعبة التي لايعرف أين ستستقر؟ هل يتذكر أن هذا الشارع كان يقطعه بكل بساطة دون أن يكون حدًا بين منطقة وأخرى؟
كيف يشعر ابن المدينة وهو يرى تلك الشوارع التي عرفها حيًا حيًا، وترك في حواريها ذكرياته، حبه الأول ربما، قبلة مسروقة، حكايات جدته،  رائحة مطبخ أمه، زعرنات شباب حارته، روحه، كيف يشعر وهو يراها تنطوي فوق نفسها متحولة إلى ركام؟
تغيب المدينة وتحضر في الفيلم، فهو لا يعلق على انهيار أبنيتها إلا لمامًا، عندما يتعلق الموضوع ببطليه اللذين يقصف منزل كل منهما، ولكنها تحضر بقوة في كل لقطاته.

يظهر المخرج في بداية الفيلم ونهايته، ويروي لنا الحكاية بصوته، يحكي لنا كم أحب أبطاله وكم تورط في قصتهم، كم تألم لخذلانهم، وكم آمن بشجاعتهم، وكم خشي عليهم من مصير رفاقهم الذين سبقوهم. ويحكي لنا كيف ودعه الساروت عائدًا إلى حمص، إلى مصير مجهول، وابتلعه الظلام.

تمر في الفيلم لحظات، تشعر المشاهد بوطأة الظلم الذي وقع على هؤلاء، وتشحنه بالعواطف وبالخيبات إلى درجة أنه ما إن ينتهي الفيلم حتى يكون قد مر بتجربة إنسانية قاسية ومرة، ويكاد يشعر بصغره أمام بطولات هؤلاء الشجعان.

أما من يعمل في المجال الفني، فلا بد أن يحسد المخرج ومصوري الفيلم على شجاعتهم النادرة هم أيضًا، وعلى التجربة الإنسانية والفنية الرفيعة التي خاضوها من أجل تحقيق فيلم، سيبقى دومًا كوثيقة سجلت أهم اللحظات والتحولات التي مرت بها الثورة السورية.

شارك على:

شارك برأيك

إعلان

جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024

تم إطلاق هذا الموقع بمنحة من

مؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة