لم أفكر كثيرًا، طوال السنوات الماضية، ماذا تعني كلمة “ثورة”، فالمسألة تبدو أعمق من التوصيف، ومشحونة بكم كبير من الأسماء والذكريات. ثورة اقترن زخمها بالصورة التي تستطيع روي الحكاية دون اجتزاء من معناها أو تحريفه. المادة الخام التي تحكي لنا ما حدث! في كل مرة أحاول تذكر القصة كاملة عندما يلتبس الواقع ويوغل في القتامة، عندما تهترئ الذاكرة ويُسيس الحدث.
ثمة لحظات تراجيدية كثيرة مرت خلال الثورة، كنتُ أعي فيها أن الكاميرا تحولت إلى سلاح فردي يستخدمه الجميع في مواجهة العنف المفرط. ما تيقنتُ منه خلال تلك الفترة أن الثوار (المتظاهرين) كانوا يشهرون الكاميرا ليس بهدف التوثيق البحت، فالصورة كانت بالنسبة لهم مرآةً تعكس جمال وعمق أفعالهم، والرواية التي يرغبون بحفظها. ربما تبدو هذه أهم النقاط الجوهرية التي حاول النظام وما يُسمى “أصدقاء سوريا” تبديدها. العمل على تحويل الصورة من أداة لغاية.
ثمة مشاهد ثلاثة مرتبطة بالصورة، ربما تبدو مجتزأة، لكنها ساهمت في تشكيل وعيي تجاه معنى التصوير والسينما من جهة، ومن جهة أخرى تجاه ارتباطي بما يحدث في سوريا، على أنه ارتباط أشخاص متصلين بالقيمة على اختلاف جغرافيتها وموقعها لتشكل قصة واحدة كاملة.
المشهد الأول
عند الساعة الثامنة مساءً، وسط شارع في حي السبيل بمدينة درعا، التقيت الدكتور جهاد محاميد ومحمد سويدان والشهيد أبو عمر، من أجل الاتفاق مع أحدهم لإيصال أكياس دم لمدينة حمص. كان الشارع خاليًا من الناس على غير العادة. بدا الأمر في غاية الغرابة. لم تمضِ دقائق إلا وفاجأتنا سيارات الأمن وقد تدفقت من كل مكان. اندفع مجموعة من العناصر نحونا وبادرونا بقنبة غاز أعصاب. رفعت الكاميرا التي كنت أحملها، الفعل الذي قام به محمد سويدان أيضًا. مضت هنيهات ونحن نصور اقترابهم، ومن ثم ركضنا في طرقات السبيل حيث داهمتنا قوات الأمن في جميع الاتجاهات. كان غاز الأعصاب الذي تنشقته يتغلغل في جسدي. تُهتُ في الخطوط الحمراء التي كانت تنعكس من الأضواء الباهتة للطرقات. وبدأ الرصاص يئز فوقنا من كل صوب. ملأتني الحيرة بين أن أرمي الكاميرا التي كنت أصور بها وبين أن أتشبث بها وهي ما زالت تصور. سقط جسدي بعد أن شُلَّ بالكامل وارتطم رأسي بالأرض. كان عنصر الأمن فوقي ينهال بالهراوة على رأسي. وسرعان ما عاد صديقي محمد سويدان وضربه على رأسه بالكاميرا التي كان يصور بها. زحفت نحو مدخل أقرب مبنى إلي، وأنا أنزف. انشغل عناصر الأمن بصديقي محمد سويدان، حيث انهالوا عليه بالضرب واعتقلوه فيما صعدتُ إلى سطح البناء واختبأت تحت خزان مياه وغبت عن الوعي.
المشهد الثاني
استيقظتُ على صوت انفجارٍ هزَّ درعا البلد. هرعت إلى درعا البلد لتشييع الشهداء. قبل المسير نحو المقبرة أرادوا تصويرهم، لكن لم يستطع أحد فعل ذلك بسبب تفحم الجثث. كانت تلك المرة الأولى التي يرى الناس فيها جثثًا مُتفحِّمة. دخلتُ الغرفة التي اكتظت بالنساء الباكيات. رفعتُ الغطاء الأبيض عن الجثة. اهتزَّت روحي من الداخل ورجفت يدي. بحثتُ عن الملامح، عن العيون، عن الفم والأسنان، عن الضحكات والهتاف. ترى أين ذهبت كل تلك الذكريات المهروسة بالسواد المبرغل مع اللحم؟ خرجت من الغرفة مهلهل الروح. سرنا نحو المقبرة بصمت. أمام المقبرة، وفيما كنتُ أبحث عن معنى لكل ما يحدث، لمحت الشهيد باسل شحادة. قابلني بابتسامته الواسعة وتعانقنا قبل أن يفتح قناص جامع أبو بكر الرصاص علينا. تفرقنا ونحن نحاول الهرب من الرصاص. تجمع الناس مرة أخرى للتظاهر، وعلت الهتافات. بحثت عن باسل فوجدته في إحدى السيارات بصحبة الناشط عمر الحوراني. ودع أحدنا الآخر بالضحك على الرصاص، وقلتُ لباسل: “نلتقي قريبًا”.
المشهد الثالث
كانت البراميل والصواريخ تهز طريق الباب ونحن مجتمعين في منزل عدنان. النظام يتقدم نحو اللواء 80 فيما داعش تقوم بعمليات اختطاف وتصفية واسعة النطاق. اختطف عبد الوهاب المنلا بعد ليلة من سهرة شهيرة قمنا بها في مكتب الصحفي رأفت الرفاعي. اجتمع نحو عشرين شخصًا من مقاتلين وناشطين وصحفيين في مكتبه، وكنا نغني تحديًا للقصف والانتشار الأمني لداعش. أصوات الاشتباكات المرعبة تهز المدينة فيما ننتظر قدوم أي من الجهتين. كنتُ أجلس وراء الكاميرا أشاهد الوجوه الشاحبة التي تحاول رسم الابتسام. كان طريق الباب خاليًا من الناس بعد موجة نزوح واسعة. وكنت أشعر أنني أتشبث بالكاميرا ونحن نننتظر المصير المجهول الذي كان يلفنا. في الصباح كانت المدينة مطوية على نفسها مغلقة كأنها قبر واسع مجهول. كانت المدينة تغرق بالمطر الذي بدا أشبه بالنحيب. كان عدد الشهداء الدين سقطوا لا يحصى بعد أن تخلف العديد من الفصائل عن المؤازرة. كنت أرغب في إكمال الفيلم الذي حاولت تصويره في المدينة. لم يستطِع عدنان إكمال التصوير، فالمرارة كانت تعتصر قلبه. جلسنا ونحن نحدق في الأفق، فاجتاحتنا نوبة بكاء كبيرة واختنقنا بالكلمات.
*
كلما استعدتُ تلك المشاهد المرتبطة بسلسلة طويلة من الأحداث التراجيدية، التي تمر كشريط سينمائي، أتساءل ما هي نهاية كل ذلك؟ كيف سترسم صور الموت المتكررة المستقبل وتشكل وعي ملايين من الناس المحاصرين والمشردين؟ ماذا سوف تقول كل تلك الصور والأفلام والذكريات؟ أحار كثيرًا في الإجابة، لكن اليقين الباقي لدي مع استعادتي تلك “المشاهد”، هو أن الثورة لا يمكن أن تتوقف، وأن صورة الدكتاتور تتحطم في كل مرة نتشبث بتلك الصور والذكريات التي سوف تؤسسس مستقبل سوريا.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024