أسماء النجوم اللامعة، الميزانيات الضخمة، أحدث التقنيات المعقدة، هذا أول ما نفكر به عند الحديث عن أفلام هوليوود التي تحظى بشهرة عالمية واسعة وكأن إنتاج الأفلام الجيدة أصبح حكرًا على استديوهات هوليوود! إلا أن واقع الأمر يشير إلى وجود بعض الأفلام التي حققت شهرة عالمية دون تمويل!
ومن الأمثلة على صناع السينما الذين أرادوا التمرد على الواقع السينمائي يأتي كل من لارس فون ترير وتوماس فنتربرغ اللذين أسسا لحركة سينمائية وأسمياها دوغما 95، ليلتحق بهما سينمائيون آخرون مثل سورن جاكبسين وكريستيان لايفرنغ، موافقين على التزام قواعد بيان الدوغما، التي تشترط أن يعتمد الفيلم على كل ما هو حقيقي بعيدًا عن المؤثرات الإضافية والميزانيات الضخمة.
بدأت الفكرة عند إخراج ترير فيلمه الأول تكسير الأمواج Breaking the Waves وقرر مع زميله فنتربرغ رسم مخطط لكيفية صناعة الفيلم، ومن هنا بدآ بتعداد العناصر التي تُشوِّه السينما المعاصرة وتصعِّب من إنتاج الأفلام بحسب تعبيرهما. كان الهدف الأساسي هو إنتاج أفلام بميزانيات منخفضة، وهكذا وضع هذان السينمائيان بيان حركة الدوغما، الذي فرض عشرة شروط على المخرجين الراغبين في الانتساب إلى الحركة، وصنع أفلام تندرج في عدادها:
1 – يجب أن يتم تصوير الفيلم في موقع حقيقي مناسب من دون إضافة أية ديكورات أو أكسسوارات، وإذا كان الفيلم يتطلب أكسسوارًا معينًا فلا بد من البحث عن موقع تصوير يحتوي ذلك الأكسسوار أصلًا. وبطبيعة الحال، لا يمكن تصوير الفيلم في الاستديو.
2 – تسجيل الصوت والصورة يجب أن يتم في موقع التصوير وفي وقت واحد، ولا يجوز استخدام تقنية “فولي” للمؤثرات الصوتية. كما لا يجوز إضافة الموسيقى التصويرية إلا إذا كانت الموسيقى تُعزَف في مكان الحدث مرافقةً للتصوير وكجزء من الحدث.
3 – يُصوَّر الفيلم بالكاميرا المحمولة باليد حصرًا، ولا يجوز استخدام الأدوات المساعدة على تثبيت أو تحريك الكاميرا (كالمسند ثلاثي الأرجل أو السكك أو العجلات أو الستيديكام).
4 – يجب أن يكون الفيلم ملونًا، وأن يستخدم الإضاءة الطبيعية المتوفرة في موقع التصوير (إذا كانت الإضاءة غير كافية لتعريض الفيلم يجب إيقاف التصوير أو إضافة مصدر ضوء اصطناعي واحد يُركّب فوق الكاميرا).
5 – يُمنَع استخدام ملحقات التأثير البصرية، كالعدسات المخصصة لأغراض معينة أو المرشحات Filters، منعًا باتًا.
6 – يجب ألا يتضمن الفيلم أفعالًا سطحية أو مصطنعة، على سبيل المثال يجب تجنب عرض العنف بشتى أشكاله.
7 – يجب أن يكون تسلسل أحداث الفيلم زمنيًا ومن دون قفزات زمنية أو جغرافية مُربِكة، كتقنية التذكر أو الاسترجاع (Flashback)، أي أن الفيلم يحدث الآن وهنا.
8 – أفلام الأنواع النمطية Genre غير مقبولة.
9 – يجب أن يُصوَّر الفيلم بنسب طول وعرض الصورة التي وضعتها أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية الأمريكية (أي نسبة عرض الصورة إلى طولها هي 1.33:1).
10 – يجب ألا يذكر اسم المخرج في العناوين الأولى ولا الأخيرة.
أعلن ترير عن حركة الدوغما في شهر آذار/مارس عام 1995 في مؤتمر أقيم في باريس، حيث اجتمع رواد السينما العالمية للاحتفال بالقرن الأول لفن السينما ومناقشة مستقبل السينما التجارية إليه، لكن ترير استغل المناسبة ليوزع على المشاركين بيان قواعد سينما الدوغما. ووصف ترير هذه الحركة السينمائية بأنها “تتعارض مع الظواهر السينمائية المعاصرة، وهي مشروع ينقذ السينما!”
أول أفلام هذه الحركة هو فيلم الاحتفال The Celebration لتوماس فنتربرغ الذي عرض في عام 1998، وحاز على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان السينمائي الدولي في العام نفسه، إضافة إلى جوائز عديدة أخرى. وتدور أحداث الفيلم حول عائلة تحتفل بعيد ميلاد الأب بحضور العديد من الأصدقاء والمقربين منهم وعند إلقاء الابن لكلمة قبل رفع نخب الأب يبدأ بالحديث عن اعتدائه الجنسي على ابنته التي كانت قد انتحرت دون أن يعرف أحد سبب انتحارها.
ثم تلاه فيلم الحمقى The Idiots، للارس فون ترير، الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي لكنه لم ينل نفس النجاح الذي حققه الاحتفال، وبعد هذين الفيلمين شارك عدة مخرجون آخرون في تشكيل حركة الدوغما من خلال أفلامهم، منهم جون مارك بار بفيلم عُشّاق Lovers، وهارموني كورين بفيلم جوليان الفتى الحمار Julien Donkey-boy.
ومن الحركات السينمائية السابقة التي هدفت إلى استكشاف وسائل تعبير سينمائية جديدة، حظيت أفلام الموجة الفرنسية الجديدة La nouvelle vague، بشعبية واسعة في نهاية الخمسينيات. وكانت هذه الموجة أيضًا بمثابة هجاء للشكل الكلاسيكي للسينما، لاسيّما السينما الفرنسية، إلا أنها رأت بأن العمل الأساسي في الفيلم يعتمد على المخرج وهو ما أسس له أعلام في السينما الفرنسية مثل فرنسوا تروفو، وجان-لوك غودار، وجاك ريفيت الذين كانوا نقاداً في مجلة دفاتر السينما Cahiers du cinéma، ومع أندريه بازين وضع السينمائيون القاعدة لعدد من المفاهيم دمجت لاحقًا، إلى جانب حركة الواقعية الإيطالية، في نظرية سينما المؤلف.
عندما حاز فيلم راقصة في الظلام Dancer in the Dark للارس فون ترير على السعفة الذهبية في مهرجان كان 2000، اعتبرت هذه الجائزة انتصارًا لحركة الدوغما واعترافًا عالميًا بها، إلا أن ترير نفسه لم يستطع استكمال حياته الفنية متمسكًا بالقواعد الصارمة لبيانه، فقد خرج عن هذه القواعد مرات عديدة في أفلامه اللاحقة.
ورغم أن الهدف من الحركة كان تحرير التعبير السينمائي واستكشاف وسائل جديدة له، شكّلت القواعد الصارمة التي تبنتها الحركة قيودًا على التعبير الفني لاحقًا، ما أدى إلى عدم صمودها بشكلها النهائي كتيار مستمر، ولكنها كانت خطوة شديدة الأهمية في سبيل الانعتاق من سيطرة رؤوس الأموال على الصناعة السينمائية، والتأسيس لسينما غير مكلفة وتجريبية من الناحيتين الفكرية والجمالية، ويسجل لروادها شرف المحاولة.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024