يعتبر ريتشارد لينكلاتر أحد أبرز مخرجي السينما المستقلة المعاصرين، وهو مخرج وكاتب، علم نفسه بنفسه، ولد ريتشارد لينكلاتر في مدينة هيوستن في ولاية تكساس الامريكية، وكان من أوائل وأنجح المخرجين الذين برزوا في عهد نهضة السينما المستقلة في التسعينات.
اشتهر لينكلاتر بأفلامه التي تجري أحداثها في مدة زمنية لا تتجاوز 24 ساعة، وتناولت أعماله ما أسماه “تمرد الشباب المستمر”، وركزت على التفاصيل الدقيقة والفروق بين الأجيال، ولكن معالجة لينكلاتر كانت تقوم على كثير من التفهم والتعاطف مع الأجيال الصاعدة، وقد قدمت هذه الأعمال روح عمر العشرينات كما أسهمت في إضافة عدد من الممثلين الموهوبين إلى ساحة النجوم في عالم السينما الأمريكية.
أوقف ريتشارد دراسته في الجامعة في العام 1982، وعمل في ناقلة نفط في المكسيك، ثم عاد إلى الولايات المتحدة الامريكية وأسس جمعية لصناعة الأفلام وانطلق في مهنة الإخراج، وأنجز فيلمه الأول “من المستحيل أن تتعلم الحراثة بقراءة كتاب” It’s Impossible to Learn to Plow by Reading Books
بعد ثلاثة أعوام أطلق لينكلاتر فيلمه الروائي الطويل “المتكاسل” Slacker والذي قدم نظرة معمقة وخاصة عن شباب التسعينات، وقد لاقى الفيلم الذي لم تتجاوز تكلفته الثلاثة وعشرين ألف دولار نجاحًا كبيرًا ولا سيما في مهرجان ساندانس في العام 1991، كما اهتمت بالفيلم وسائل الإعلام وأثار جدلًا واسعًا حول ثقافة الأجيال الصاعدة.
استكمل لينكلاتر رحلته في عالم السينما المستقلة وأنجز العديد من الأفلام، ولكن أشهر أفلامه على الإطلاق كانت ثلاثية قبل شروق الشمس، قبل غروب الشمس، قبل منتصف الليل، إلى أن أطلق في العام الماضي فيلمه “الصبا”، وكانت الأفلام الأربعة من بطولة الممثل إيثان هوك، الذي تعاون مع المخرج في ثمانية أفلام.
تبدأ الثلاثية برواية حكاية لقاء شابين صدفة، فتاة فرنسية وشاب أمريكي، وفي يوم واحد تنشأ بينهما قصة حب حساسة، مبنية على تشابهاتهما واختلافاتهما في آن، وينتهي الجزء الأول من الثلاثية بموعد اللقاء القادم، جاء الفيلم الثاني ليستكمل الحكاية ويخبرنا ما جرى خلال سنوات عشر من اللقاء الأول بينهما، فيما كان الثالث استكمالًا لتجربة الحياة المشتركة بينهما.
قامت الأفلام الثلاثة على حدث يجري في زمن محصور، وعلى لقطات طويلة يتحدث فيها الممثلان طويلًا عن وجهات نظرهما في الحياة، ومالت الحوارات في الأفلام إلى الفلسفة، ورغم أن الأداء في الأفلام استند كثيرًا إلى الحوار، ولم يستند إلى الحركة والصمت، مما يوحي أن الممثلين يقومون بالارتجال، بسبب طول الحوارات وتلقائيتها، إلا أن لينكلاتر يؤكد أنه لا يسمح للممثلين بإجراء أي تعديلات بالحوار أثناء التصوير، وقال إنه عادة ما يفتقر للصبر وللميزانية التي تسمح له بترف الارتجال.
قدم لينكلاتر في فيلمه للعام 2015 “الصبا” مقترحًا يقوم على إنجاز تقني شديد الصعوبة، فقد رأى أن إنجاز فيلم عن المراهقة يتطلب تحول بطل الفيلم من الطفولة إلى الشباب أثناء تصوير الفيلم، لذا قام بتصوير فيلمه على مدى 12 عامًا، كبر فيها بطل الفيلم أمام أعيننا، وتغير شكله عدة مرات إلى أن أصبح شابًا. وقد كانت التحديات التي تواجه خيارًا فنيًا بهذا التعقيد شديدة الصعوبة، وأهمها ضبط لون وشكل وطبيعة إضاءة الفيلم على مدى سنوات التصوير المتباعدة، بالإضافة إلى القلق الدائم من خسارة أحد المشاركين في الفيلم لأي سبب كان، خاصة أن القوانين لا تسمح بارتباط الممثلين بمشروع طويل الأمد كهذا، ولكن التحدي الأكبر هو تقسيم سيناريو الفيلم إلى أجزاء يمكن تصويرها على مراحل عمرية مختلفة للبطل دون أن يبدو الفيلم وكأنه عدة أفلام قصيرة صورت منفصلة ووصلت ببعضها. ورغم أن التحدي يبدو شبه مستحيل إلا أن لينكلاتر استطاع تحقيقه، وقدم فيلمًا تكمن قيمته في تغير بطله وشخصياته الأخرى بحيث يشعر المشاهد بأثر السنين وهي تمر ليتحول فيها الطفل إلى شخص كامل ناضج.
وعاد لينكلاتر إلى موضوعه المفضل في الحديث عن الشباب في فيلمه لهذا العام “الكل يرغب فيه”، ولم يستقبل الفيلم بنفس الحفاوة التي استقبل بها فيلمه السابق، ولكن لينكلاتر مستمر في مشروعه، وهو مقتنع أنه قادر على الاستمرار في صناعة الأفلام لأنه قادر دومًا على إنجاز أفلام جيدة بميزانيات منخفضة جدًا.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024