فيلم نوري جيلان الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان العام الماضي 2015، والذي لم يتم ترشيحه لجائزة الأوسكار، سبات شتوي (وينتر سليب)، فيلم شديد الخصوصية.
صحيح أن أفلام جيلان عمومًا هي أفلام خاصة وتمتاز بإيقاع بطيء، ونوع من الأداء التمثيلي شديد الواقعية، ولكن هذا الفيلم اختلف حتى عن أفلام جيلان السابقة بفارق أساسي وهو أن الفيلم يتناول شخصية أساسية ويقدمها لنا لنحبها، ثم يبدأ على مدى الساعات الثلاث من الفيلم بتعريتها أمامنا، كشخصية غير محببة، فوقية، وتعيسة. عدا عن ذلك، يستخدم الفيلم بطله كوسيلة لانتقاد النخب المثقفة عمومًا، التي تريد أن تبدو منعزلة ومختلفة عن مجتمعها ولكنها في العمق تعجز عن الانسلاخ عنه .
يقدم الفيلم مستوى مذهلًا في الصورة، دون أن يبدو وكأنه يبذل جهدًا في سبيل ذلك، وإنما تبدو تلك الصورة الساحرة عضوية جدًا في حكاية هذا الممثل السابق، الذي لم ينجح في التحول إلى النجم الذي كان يطمح بأن يكونه، واعتزل في الأملاك التي ورثها عن والده.
في عدة مشاهد ذات فرضية واحدة، يجلس البطل خلف مكتبه ليكتب مقالته الأسبوعية لجريدة محلية، وتضجع أخته خلفه على كنبة وهي تقرأ، ويتناقشان في أمور شتى. يبدوان لنا عمومًا على وفاق، وتشغلهما الأمور الفلسفية والفكرية العميقة، إلى أن يتصاعد أحد هذه النقاشات يومًا في مشهد من أطول مشاهد الفيلم، ويتحول إلى مصارحة على كل الأصعدة، تجعل الشخصيتين تكشفان لنا جوانب من الآخر كانت خفية كل الفيلم، أو على الأقل اكتشفناها ولكننا لم نعلم أن الشخصيات اكتشفتها عن بعضها.
إن من يعري هذه العائلة التي تعيش في ظلال الحياة، وفي عمق الكراهية، هو العائلة الفقيرة التي تستأجر إحدى أملاك العائلة، وتعجز عن دفع الأجرة، ابن هذه العائلة هو من يضعنا لأول مرة في مواجهة بطلنا الساخر، لنكتشف أن سخريته هذه إنما تضمر ضمنها فشلًا وضعفًا، وفوقية لا مبرر لها.
يسير الفيلم بإيقاع متهاد، ليعرفنا شيئًا فشيئًا إلى مجتمع يرغب بفحصه بعدسة مكبرة، ويكشف لنا كل تفاصيله من خلال الأحاديث اليومية والملل الريفي والتفاصيل الصغيرة. ويبحث في علاقة الحب التي تجمع البطل بزوجته، الحب، من وجهة نظره، التي ترى كل الأشياء بمنظور غريب وتملكي.
لا يمكن أن يوصل الفيلم رسالته دون أن يشعر مشاهده بثقل الحياة التي يعيشها الأبطال، بالألم الذي يكابدونه لمحاربة تناقضاتهم، وبالجمود الذي يكبلهم. لا شك أن أفلام نوري جيلان هي أفلام تتطلب مشاهدين من نوع خاص، وتحتاج جمهورًا لديه صبر على الاكتشاف والكشف، ولكن العوالم المدهشة في سبر أعماق النفس البشرية في أفلامه تجعل هذا الإيقاع الخاص ضرورة وصيرورة لا بد منها، عدا عن أنها تترافق مع متعة بصرية لا مثيل لها إلا في نوادر وتحف السينما العالمية.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024