أسير نحو العدسة المقعرة مخدرًا كما لو كنت أسير نحو بئرٍ مسحور. أطل من فوهتها وأحدق في زجاجها المضغوط. ألمح مئات الصور المنطبعة في مرايا العدسة كما لو كانت أمواجَ مياهٍ مُكسرة. أمدُّ يدي لألتقط أكثر الصور حميميّةً، لكنها تفرُّ كخفافيش فزعة، وسرعان ما يُطبق غالق العدسة وأسقط فيه مخلخل الأطراف، غارقًا بملايين الصور المحطمة في قعر الذاكرة.
يطاردني حلم العدسة كل يوم. في كل مرة أضع رأسي على السرير أحلم بالمحقق يجلس في عدسة تصوير مفلطح الأطراف، حاملًا سوطًا من جلد، يتدلى من كاميرا ضخمة تصور ما أقول. يجلس أمامي وأنا ألمح انعكاسه في كل مكان. يمدُّ لي شريط فيلم قديم طبعت فيه وجوه متظاهرين وجثث قتلى وعظام جوعى، ثم يسألني عن أسمائهم واحدًا تلو الآخر. لكني لا أستطيع الكلام. يَدُقُّ لساني بحامل الكاميرا، ويهشم أسناني بالعدسات. أنهض من الحلم فزعًا ثم أنظر في المرآة وأتذكر المحقق الذي سألني في مطار المزة العسكري، لماذا التقطت هذه المقاطع؟
عندما أمسكت الكاميرا للمرة الأولى، لم أظن أنني أزج بنفسي في أكثر المهن تعقيدًا. ولم أستطع الإجابة على سؤال المحقق آنذاك. السؤال الذي مرّ بأطوار فلسفية كثيرة. ترى لماذا نلتقط تلك المقاطع؟ من أجل من نصنع تلك الأفلام؟
لعلها المصادفة، لكنني تعرفت على صناعة الأفلام بشكل حقيقي عن طريق مواجهة الخوف. يتحفظ البعض على الكلمة التي أقولها، «صناعة الأفلام» على اعتبار أن صانع الأفلام يجب أن يكون أكاديميًا! لكن لم تكن المسألة برمتها مسألة تسميات أو تصنيفات.
يبدو الأمر الآن كما لو أنه فيلم سينمائي يمتزج فيه الخيال بالحقيقة.
قبل خمسة أعوام ركضت في طرقات المدينة. الخوف يجثم في رائحة البارود الثقيلة. كانت درعا البلد محتلة. عناصر الحرس الجمهوري حينها كانوا كمخلوقات هبطت من كوكب آخر. تسللتُ إلى درعا البلد من طرف الوادي مستعينًا بدراجة نارية لأحد الأصدقاء من مخيم درعا. كان الناس يتدفقون من الجامع العمري كشلال. يسيلون في نزلة الكرك نحو الطرف الآخر من المدينة. تسمّرتُ في مكاني وأنا أراقب المشهد من خلال شاشة الهاتف الذكي. وفي تلك اللحظة، أيقنتُ لأول مرة أن الثورة قد اندلعت وأن الرصاص لن يستطيع كتم الأصوات. سقط عشرات الشهداء. وفيما كانت تتفجر الأمعاء وتثقب الرؤوس، كنت أفكر في أي اتجاه يجب أن أحرك الكادر؟ رجفت يدي حينها وقلت لنفسي يجب أن أثبت.
توالت المظاهرات وتوالى الشهداء في درعا. وسرعان ما انتقلت المظاهرات إلى دوما وحرستا في دمشق. وبحكم إقامتي في دمشق استطعت التنقل بين ريف دمشق ودرعا لأصور ذات المشهد الذي كان يتكرر في أماكن مختلفة. حينها فكرت للمرة الأولى: أن الصورة التي تظهر ناقصة، وثمة قصة غير كاملة يجب أن تروى.
بدأت كتابة فيلم يتناول الثورة في عدة مدن سورية. كنت أود أن أروي القصة بشكل كامل. قصة الشباب المجهولين الذين كانوا يحلمون بالحرية ويدفعون أرواحهم ثمنًا لها.
لم استطع تنفيذ الفيلم، فالمسألة كانت في غاية التعقيد. لم أعد أعرف أين يبدأ الفيلم وأين ينتهي الواقع. وبعد مرور سنتين من التصوير والتنقل في أماكن مختلفة وجدت نفسي غير قادر على إكماله. فالثورة كانت على أشدها، وتواجدي كحامل للكاميرا كان لا يعني أنني مجرد مصور أو مخرج. فالغاية الأولى لما كنا نقوم به كان «الثورة». كنت أشعر أن أصدق توصيف لما أقوم به هو كلمة «ثائر» والثائر لا يُحدَّد بوظيفة محددة. فمن الممكن أن يكون مصورًا، وأن يكون مسعفًا أو أن يرمي الحجارة، ومن الممكن أن يكون هَتَّافًا في المظاهرات، أو أن يكون مقاتلًا إن تطلب الأمر.
آنذاك شعرت أن صناعة الأفلام ربما تتناقض مع الثورة فهي تتطلب تفرغًا كاملًا، وتحتاج مسافة من الحدث. قد تكون سمة الفن عمومًا أنه غير منفعل، بل يراقب ويستفيد من الأحداث بحنكة. الفن الذي يهدف، مهما كانت غايته نبيلة، للتسلية والترفيه. كنت أعلم أن الفن عمومًا والسينما خصوصًا لا يمكن أن تحرر جبهة طويلة، لكنني كنت أسأل نفسي: كيف من الممكن أن نصنع فنًا أو أفلامًا تحتفي بالقيمة وتمجدها؟
لازمتني الرغبة في صناعة فيلم، وفي كثير من الأحيان شعرت بصراع مرير في داخلي حول ما يجب أن أقوم به بالضبط؟ السؤال ذو الوجه الصعب: من أنا في خضم انكفاء الثورة؟
لكن الرغبة بقيت تنز في أكثر الأوقات اضطرابًا، لا أعلم من أين كانت تأتي، ربما وببساطة كانت تلك الرغبة تأتي من عدم فهم الكثير مما يحدث على الأرض، أو ربما صناعة الحدث ومواكبته، لا الرغبة في صناعة فيلم عن حدث كما يتخيله المخرج بسبب المسافة التي تفصله عن الحدث.
لم أستطع الوصول إلى جواب حتى هذه اللحظة، فالمسألة تحتاج عدة مقالات لمحاولة شرح هذه الفكرة الملتبسة. لكنني استطعت إنجاز فيلمي القصير الأول بعد 3 سنوات. كان الفيلم محاولة لعكس واقع مدينة حلب التي تحررت منتصف عام 2012. عندما دخلت المدينة المدمرة، لم يكن ثمة مخرجون يقومون بتوثيق ما يحدث في هذه المدينة. لم تكن حلب مدينتي لكنها المدينة الأولى التي كانت على وشك أن تتحرر بالكامل، حيث حُرر قرابة 80 في المئة من أحيائها. كنت أرغب في نقل الصورة الجميلة التي شاهدتها هناك. نقل الصورة للناس أنفسهم. كنت أرغب بنقل صورتهم الداخلية الجميلة وصمودهم، ولم أكن معنيًا بفضح الجرائم ومشاهد القصف والدمار، فتلك مسألة فقدتُ إيماني بها منذ أن اكتشفت أن العالم الذي لم يتأثر بالجمال (صور الرقص والهتاف) لن يؤثر فيه قبح الموت.
مازال حلم العدسة يراودني، وما زالت رغبتي في صناعة الأفلام تكبر دون البحث عن تصنيفات. الرغبة في التواجد قرب الحقيقة ونقلها. السحر الذي أتشبع به من واقعية الشخصيات التي أمضي بصحبتها أكثر التفاصيل غرابة. غرابة تجعلني أندهش من الواقع كلما عاينته بقرب أكبر. تزداد رغبتي بأن أعري الطبقات الكثيرة التي يتلحف بها الإنسان خوفًا من قول الحقيقة. تلك القدرة العجيبة التي منحتني إياها صناعة الأفلام. ذلك الشغف الذي يدعى «السينما».
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024