لأعوام طويلة جدًا، رددنا كطلّابٍ سوريين في المدارسِ صباح كلّ يوم، الشعارَ القائل:
أهدافُنا… وحدة حريّة اشتراكيّة
عهدُنا… أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية
ونسحقَ… أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة.
وعلى الرغم من كثرة أولئكَ الذين تعرّضوا لهذا الشعار صباحًا، وردّده لا وعيُهم، إلّا أنّ قلّة قليلة فقط من هؤلاء من استطاعت إدراكَ السبب الذي وقفَ وراءَ فرضِهِ علينا في المدارس.
قبل أربعةٍ وثلاثينَ عامًا بالضبط، في شباط/فبراير 1982، ارتكبت قوّات نظام حافظ الأسد مجزرةً بحقّ سكّان مدينةِ حماه في الوسط السوريّ استمرّت أحداثُها على مدارِ الشهر كاملًا. ويُجمعُ المراقبونَ وأهالي مدينة حماه، أو أولئك الذين قُدّر لهم أن يكونوا على مقربةٍ منها لقرابةٍ لهم فيها أو عمل، أنّ ضحايا المجزرة لم يقلّوا عن ثمانيةٍ وثلاثينَ ألفًا، قضوا جميعًا تحت صواريخ دبابات الجيش السوري، وبأيدي عناصرهِ المدعومين بعناصر أمنية مسلحة.
لم تتوقف الجريمة عند حدّ القتل، الذي هو أفدح الجرائم في كافة الشرائع والقوانين، إلّا أنّ نظام حافظ الأسد، رفع سقفَ الإجرام إلى حدودٍ أعلى، أعني أنهُ غرس في لاوعي السوريين تبريرًا دائمًا لفعلتِهِ، ورسّخَ في أذهانهم فكرة الدفاعِ عنها. وعن سابقِ معرفةٍ وخبرة، فرضَ، ليسهّل العمليةَ تلك، تعتيمًا إعلاميًّا على الحدث، وما كان بالإمكانِ آنذاك إيجاد سبلٍ لكسرِ الحظر المفروض على الصورة التي أراد حافظ الأسد إخفاءها طوال فترة حكمه.
من هذا المدخل، يمكنُ الاستدلالُ على أهميّةِ الصّورةِ التي كانَ يُمكنُ أن تغيّرَ المعادلة وتقلبَ الطاولة لو وصلت إلى العالم في حينها (يحقّ لنا هنا التشكيكُ في ذلك، هل كانت ستقلب المعادلة فعلًا؟)، لكنّ ما حدثَ أنّ ضحايا كثيرينَ ماتوا، وظلّوا مجهولين، وظلّ قسمٌ كبير من السوريين يتساءل عن سبب توشّح نساء حماه بالسواد حتى مطلع الثورة في آذار عام 2011.
لكنّ ما استطاعَ الأسدُ الأبُ فعلهُ في زمانهِ، كان عسيرًا أن يفعلهُ كلّ الحكّام العرب الذين انتفضت عليهم شعوبهم منذ خمس سنوات، بما في ذلك الأسدُ الابن، على الرّغم من محاولاته الحثيثة للتشبثِ بقيمِ ونظرياتِ سلفه.
لم تكد تمضي ساعة واحدة على خروجِ شباب درعا في احتجاجهم الأول، حتّى كانَت فيديوهات استشهاد الشهداء الستّة الأوائل تتصدّرُ عناوينَ نشرات الأخبار، وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تلبث الثورةُ السورية أن جعلت قنواتِ الإعلام الرسميّ السوريّ مادةً للسخرية في العالم بأسره، آنذاك، كانَ السوريون يحاولونَ مواجهة موتهم عراةً عزّلًا، لا يملكونَ في حربهم التي وصلت إلى يومنا هذا سوى أصواتِهم، وكاميرات هواتفهم المحمولة، وقنوات اليوتيوب التي تمكّنوا، من خلالها، من بثّ الحماسةِ في قلوب ونفوس السوريين أجمعين. فأخذت بقعة الزّيت بالتمددِ إلى أن صارَ مستحيلًا على النظامِ وعلى سواه إيقافها. فيما رسّخَ المثلَ الشعبيّ الذي يقول: «نَفَس الرجال، بيحيي الرجّال». وبالفعل، أحيت الصورةُ الآتيةُ من درعا نفوسَ السوريين الذين ينتظرونَ فرصةً ليصرخوا في وجه قاتلهم وابن قاتلهم.
ليسَ في ذلك فقط تكمنُ أهميةُ اليوتيوب في ثورات الربيع العربي، وفي الثورة السورية على وجه التحديد. أمران آخران على القدر ذاتِه من الأهميّة، يُمكنُ التقاطهما بسبب اليوتيوب. الأول، أنّ الصّورة استطاعت تعريةَ نظامٍ كاملٍ من كلّ قشرةٍ متبقيةٍ يستر بها سوءاته، وهنا، سيخرجُ من يقولُ إنّ ذلكَ لم يكن مؤثرًا، أو ليسَ مؤثرًا حتى اللحظة. وهذا من الناحية العملية الميدانية قد يكونُ صحيحًا، إلّا أننا نتحدث هنا عن كسرِ أسٍّ أساسيّ من أسس النظريات التي حكم بها الأسدان سوريا، وهي نظرية القوّة والهيبة، وفرض الغموض على كلّ ما يتعلّق بالداخل السوري. وإذا كان هذا الكسرُ ليسَ مؤثّرًا الآن، إلا أنّهُ قد يؤسسُ لمرحلةٍ جديدةٍ من رفعِ صفة الألوهية عن أيّ كان، سواء كان الأسد، أو في المرحلة التي ستليه. وهي آتية حتمًا.
الأمرُ الآخرُ، هو أنّ الصورة جعلت السوريين أكثر تصديقًا لموتهم. من لا يُرى ميتًا لا يموت. تعلّمنا تلكَ القاعدة منذ مدّة، وهي المردّ الأساسيّ لعدم تصديقِ البعض موت ذويهم في المعتقلات، أو في مقابر جماعية مثلًا، الأمر الذي ينطوي على خطورة التعايش مع اللاواقع، إذ يرتاحُ المرءُ لفكرةِ أنّ حبيبهُ أو قريبهُ أو صديقهُ لم يمت. ويتابعُ حياتهُ على نحوٍ عاديّ نسبيًا، ما يجعلُ الموتى باقينَ يتجولونَ مع الأحياء. من قيمة اليوتيوب، أننا رأينا موتانا، صار بإمكاننا وصفُ ملامحِهم الأخيرة، صارَ، ولو غصبًا، بمقدورنا أن نقولَ إنّهم ماتوا، أن نعترفَ بغيابهم، بالحقائق لا بالتوقعات. صار لدينا مؤهّل للحداد على الذين رحلوا، وبالحداد عليهم نعترفُ بموتهم، موتهم الذي ما كنا لنصدّقهُ لولا الصورة التي لا تكذب. وعليه، فقد صارَ استيعابُ كلّ من الحاضر والمستقبل، كزمنين يستطيعُ المرءُ من خلالهما التخلّص من الماضي لمتابعة الحياة والبناء، أمرًا أكثرَ قابليّة للتطبيقِ بعد انتهاء الحداد السوريّ المرير.
وفي هذا تحديدًا، في تصديقِ موتِنا، والحداد على ضحايانا، وكتابة مراثٍ تليق بكلّ ما فقدناه، في كلّ هذا تكمنُ منجاتُنا القادمة، والتي لا ريبَ فيها.
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024