ما زالت السينما، منذ بدايتها، تحث الجميع على الخلق والإبداع، وتحفز المفكرين والشعراء والأدباء على الخوض في غمار الخيال. فالفيلم السينمائي هو تكثيف يختزل أزمنة متعددة، احتار النقاد في توصيفه وتعريفه، أهو رصد لواقع أم هو واقع جديد أم محض خيال؟
عند ذهابنا إلى صالة السينما نوقع عقدًا وهميًا بيننا وصانع الفيلم، وبكامل وعينا، وبموجب هذا العقد نمضي ساعتين أو نحوهما من عمرنا في رحلة غامضة، نسلم فيها أنفسنا طواعيةً لمخيلته، ونسمح لأحلامه بالتغلغل في وعينا لا بل بالتمازج مع أحلامنا.
الفيلم السينمائي مكتمل النضج هو وثيقة بصرية وهوية مشحونة بخلفية صاحبها ونشأته ومجتمعه وطباعه، وثيقة شديدة الأهمية لما يمكن أن يكون عليه واقع الشخص القاطن في خيال صانع الفيلم. لذلك، يسهل أن نتورط عاطفيًا مع أبطال فيلم ما، وأن نعشق مخرجًا ما، بالرغم من عدم معرفتنا الشخصية بهم.
http://www.youtube.com/watch?v=_FrdVdKlxUk
المجانين الأوائل، أمثال جورج ميليه برائعته رحلة إلى القمر Le Voyage dans la Lune (1902)، المتنورين الحالمين، أبرزوا للعالم إمكانات المولود الجديد، فلم يعد الخيال حبيس العقول والأوراق، ولم تعد الأفكار المجنونة تؤرق أصحابها وحدهم، بل انتقل أرقهم إلى العالم بأسره. توالت المغامرات والمحاولات لصنع واقع افتراضي استشرافي للمستقبل، وأدى ذلك بالمخرجين إلى اللجوء إلى العلم بالضرورة، والتعاون مع كافه المتخصصين في مختلف المهن والفنون من العمارة إلى الرسم إلى النحت إلى الموسيقى وبالتأكيد علوم الفلك. وخير مثال على ذلك ملحمة ستانلي كوبريك الشهيرة 2001: أوديسا الفضاء 2001: A Space Odyssey حيث استطاع هذا المخرج الملهم صناعة فيلم ينقل المتفرج إلى أعماق المستقبل، كما يتخيله، بحساسية فائقة تصل إلى حد الإعجاز التقني، حيث انعدام الوزن والذكاء الصناعي والسفر عبر الفضاء، وتحقق ذلك كله قبل وصول نيل آرمسترونغ إلى سطح القمر.
أفلام مثل قتلة بالفطرة Natural Born Killers لأوليفر ستون، وبرتقالة آلية A Clockwork Orange لستانلي كوبريك، جذبت شرائح مختلفة من الناس على اختلاف أهوائهم، وأسست لمجموعات متابعين أوفياء (cults) ترى في أبطال هذه الأفلام قدوة ومثلًا أعلى، على الرغم من إجرامها. هذا الواقع الافتراضي يختصر حياة كاملة في وقت لا يكاد يتجاوز الساعتين، كما لو كان آلة زمن تحت تصرف المشاهد، تمكنه من رؤية المستقبل أو العودة إلى الماضي وكل هذا بقياده وتوجيه صانع الفيلم.
تطويع التكنولوجيا واستخدامها في صناعة الأفلام شر لا بد منه، والشر هنا نسبي، حيث بات بإمكاننا ملامسة أحلام غيرنا، أن نعيش الحلم من الداخل، وليس على مقاعد الصالات، وكل ذلك يتم من خلال استخدام تكنولوجيا جديدة، منها التصوير بكاميرات 360 درجة وإمكانية إشراك حواس جديدة لدى المشاهد، كحاسة الشم، إلى أماكن العرض.
تعزز التكنولوجيا الجديدة الفردية، وتعد بفتوحات هائلة على مستوى الشعور والإحساس. فتقنية التصوير بالأبعاد الثلاثة، مثلًا، باتت واقعًا ولم تعد ترفًا نادرًا لأفلام الميزانيات الضخمة، وها قد أصبحت نظارات الواقع الافتراضي بمتناول الجميع، وباتت أجهزتنا المحمولة مسرحنا المنزلي.
وبالعودة إلى التطور التقني، نسمع في هذا الوقت أصواتًا معارضة لاستخدام التكنولوجيا الحديثة في السينما، وذريعتها في ذلك الحفاظ على الصرامة والتقاليد الموروثة في صناعة الأفلام، وأن ما يقوم به الطليعيون في هذا المجال يعتبر “هرطقة” فنية. فلنعترف جميعًا أن السينما كجنس فني ولدت نتيجة التلاقح بين العلم والفن، من آلية تحميض الأفلام وعلاقة المواد الكيميائية المستخدمة بدرجة اللون والتباين، و سرعة التحميض وعلاقتها بخصائص الكادر النهائي، كل هذه الأمور وأمور أخرى كثيرة مرتبطة بأبحاث علمية مرتكزة بشكل مباشر على علوم متعددة من الكيمياء إلى الرياضيات والفيزياء.
لذلك فإن المعارضين للتطور المحتوم ما هم إلا مجموعة من الخائفين على مستقبلهم هم، الخائفين من أن يجدوا أنفسهم خارج اللعبة في حال لم يحدّثوا وسائلهم ويتعاملوا مع التكنولوجيا باسترخاء أكبر. ألم يستعن المسرح، وهو أبو الفنون، بآخر ما توصل إليه العلم في مجال الإضاءة والصوت؟ ألم يستفد كبار المسرحيين من التطور الحاصل في كافة المجالات السمعية البصرية؟ ألم نشاهد عروضًا لشكسبير تستخدم فيها الوسائط المتعددة؟ ما الضير إذًا من استخدام التكنولوجيا لخلق نوع جديد من الفرجة؟ إنها السينما، إنها الحياة.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2025