السينما المصرية المستقلة: آلية إنتاج أم اتجاه فني؟

128376_0

 

أقام المعهد العالي للسينما بالقاهرة في 2012، سيمنارًا للمخرج محمد خان، تحدث خلاله عن فيلمه (كليفتي 2004)، وهو أول فيلم مصري طويل يصور بكاميرا ديجيتال، في وقت كانت فيه نظرة السينمائيين لتقنيات الفيديو مشبعة بالاستخفاف. وقد انطلق مخرج الفيلم، الذي سبق وأن خاض في الثمانينيات صراعًا مع المنتجين التقليدين، من رغبته بخلق ظرف إنتاجي قليل التكلفة يحرر الإبداع من القيود التي تفرضها آلية الإنتاج التجارية، ومن إدراكه للدور الكبير الذي ستلعبه تقنية الديجيتال بعد ذلك،

3623741f81e0d10bd44c29ae116b0f64_123489892_147

 

وقد تحققت تلك النبوءة فعلًا بعد أقل من عشر سنوات على إنتاج الفيلم، وصار مصطلح “السينما المستقلة” متداولًا بكثافة خاصة بعد فيلم (عين شمس 2007) لإبراهيم بطوط، والذي صور بآلية وتقنيات بسيطة، نسبة للآلية والتقنيات المتبعة في العمل التقليدي.e8VADFLt
ولكن وبعد عدة أفلام سارت على نهج تلك التجارب، التف المنتجون التقليديون حول المصطلح، فتمسكوا بالقشور ورموا المضمون، لتصبح “السينما المستقلة” رديفة للسينما منخفضة التكاليف، بغض النظر عن موضوعاتها، بمعنى أن المنتج أصبح ينتج الفيلم باعتباره فيلمًا مستقلًا لغاية تقليل النفقات والمصاريف الإنتاجية، بينما يصنع في الحقيقة فيلمًا تجاريًا بنفس منطق التفكير الذي كان سائدًا في التسعينيات، وبذلك تم إفراغ المصطلح من معناه، وتحول الفيلم المستقل لكابوس بالنسبة للفنيين اللذين يتقاضون نصف أجرهم المعتاد في هذا النوع من الأفلام، وتحول الأمر من رغبة بخلق ظرف إنتاجي مريح إلى واقع يفرض ظرفًا إنتاجيًا متقشفًا، ومن الرغبة بالتحرر من القيود إلى عمل قطع شوطًا على صعيد الشكل دون حصول طفرة موازية في المضمون، ورغم انتباه المخرجين الشباب اللذين حملوا لواء “السينما المستقلة” منذ بداياتها لهذه النقطة، إلا أن الأمر لم يتعدَ حدود مطالبتهم بحماية “السينما المستقلة” من اعتداءات سافرة شوهت المعنى وجعلته خاويًا وفارغًا، بينما لجأ البعض الأخر لتأسيس شركات إنتاج مثل (فيلم كلينك) و(زاد للإنتاج) لضمان إخراج أفلامهم على النحو الذي يأملونه، وأخيرًا اتجه من تبقى لمنح الإنتاج والدعم الذي تقدمه مهرجانات سينمائية عربية وأجنبية ليتمكنوا من مواصلة العمل، ولا شك أن ذلك أدى إلى إجهاض مشروع طموح بتأسيس “سينما مستقلة” حقيقية تنأى بنفسها عن القيود بما في ذلك ما تفرضه المهرجانات من مضامين معيّنة أو رؤى ترغب بدعمها وأحياناً أشكال فنية قد يحلو لها احتضانها، وتحولت “السينما المستقلة” إلى فيلم يتم إنتاجه كل سنة أو سنتين يحمل ملامح وحماسة التجربة في بداياتها كالفيلم التسجيلي (عن يهود مصر 2013) لأمير رمسيس وفيلم (باب الوداع 2014) لكريم حنفي.
والمفارقة أن معظم هذه الأفلام فشلت في دور العرض، حيث أنها لم تصمد لفترة طويلة، بينما حصد الكثير منها جوائز رفيعة في مهرجانات سينمائية مختلفة، والحقيقة أن تجربة “السينما المستقلة” في مصر أثبتت أنها اتجاه فني أكثر منها آلية إنتاج، فالقاسم المشترك بين أفلام مثل (الشتا اللي فات) لإبراهيم بطوط و(ديكور) لأحمد عبد الله و(الخروج إلى النهار) لهالة لطفي، هو الرغبة في مقاربة مواضيع تحجم عنها السينما التقليدية، وتناول هذه المواضيع برؤية ذاتية لا تنفصل عن الواقع، كونها وليدة واقع اعتادت السينما التجارية طيلة سنوات على تجاهله وتجنب الغوص في أعماقه بجدّية، بحجة أنه لا يصلح لأن يكون مادة فيلم سينمائي يجذب الجمهور ويحقق النجاح الجماهيري المأمول.

 

https://www.youtube.com/watch?v=1jJJPYvax1k
مع الأخذ بعين الاعتبار أن طرق الحصول على الإنتاج اختلفت من فيلم لآخر، فبينما تولى الممثل عمرو واكد إنتاج فيلم (الشتا اللي فات) من خلال شركته (زاد للإنتاج)،

 

 

قامت هالة لطفي بإنتاج فيلمها (الخروج إلى النهار) بنفسها، بينما أنتجت شركة (نيو سينشري) المحسوبة على السينما التجارية فيلم (ديكور)،

 

 

وقد تخلى بذلك مخرجو “السينما المستقلة” عن آلية الإنتاج التي اتبعوها في البداية لصالح حفاظهم على تقديم السينما التي يشتهونها بالتعاون مع جهات إنتاجية أدركت أهمية دعم سينما بديلة ترتقي بالإنتاج السينمائي عن المستوى المتدني الذي وصل إليه خلال الخمس سنوات الأخيرة.
ولكن تبقى هذه الأفلام حالات فردية قليلة، لا يجد صنّاعها في كل مرة جهات جاهزة لتقديم التمويل اللازم، وذلك ما أعاد بعض المخرجين إلى العمل في السوق السينمائية رغم مساهمتهم بتأسيس “السينما المستقلة” ورفدها بأفضل إنتاجها مثل المخرج أمير رمسيس الذي أنجز بوقت قياسي فيلميه (بتوقيت القاهرة 2015) و(خانة اليك 2016) وهما فيلمان بعيدان عن السينما المستقلة تمامًا والمخرج عماد البهات الذي أثار فيمله (إستغماية 2006) جدلًا كبيرًا عند عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي 2006 ولكنه عاد بعد عام وأنجز فيلمه (البلياتشو 2007) وهو فيلم تجاري بالمعنى المتعارف عليه.
اليوم، يبدو بوضوح أن الصراع الذي يخوضه السينمائيون المصريون هو تكرار لصراع سبق وأن خاضه أساتذة من جيل آخر، مثل الراحل عاطف الطيّب ومحمد خان وداود عبد السيّد، استطاعوا من خلاله تأسيس “سينما جديدة”، حققت للسينما المصرية سمعتها الحالية ونقلتها إلى آفاق أكثر رحابة.

شارك على:

شارك برأيك

إعلان

جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024

تم إطلاق هذا الموقع بمنحة من

مؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة