اقتضت طبيعة الإنتاج السينمائي، وبعده التلفزيوني، وضع ضوابط محددة لكيفية كتابة السيناريو، لا من حيث المضمون والبنية فقط، بل من حيث الشكل أيضًا، حيث كان لا بد من إيجاد طريقة لتقدير زمن العمل المكتوب بأدق ما يمكن، ووقع الاختيار على أن يكون زمن الصفحة دقيقة واحدة. من جهة أخرى، ثمة مراحل وَرَقية عدة بعد كتابة السيناريو، أهمها التفريغ العام، الذي شرحه مقال لأدهم أبو شقرة في عدد سابق. وليتمكن القائمون على تنفيذ العمل من إنجاز هذه المراحل، كان لا بد من وضع المزيد من الضوابط على حرفة كتابة السيناريو، كذكر الأكسسوارات الضرورية، وكافة الشخصيات الموجودة في المشهد، وغير ذلك من التفاصيل التي تسهِّل تنفيذ العمل.
من جهة أخرى، وُلِد السيناريو في زمن الآلة الكاتبة، وفي الآلات الكاتبة، تحتل الحروف في الصفحة مساحات متساوية، أي أن كل حرف يطبع ضمن مستطيل وهمي مساوٍ تمامًا للمستطيلات التي تُطبَع ضمنها كافة الحروف الأخرى. بناءً على ذلك، اختارت شبكة BBC تحديد أطوال أسطر الفقرات المختلفة في السيناريو (الحركة، الحوار، عنوان المشهد، إلخ) بعدد الأحرف. وبعد احتلال الكمبيوتر الموقع المتقدم في مختلف الأعمال، ومنها الكتابة، حافظ السيناريو في العالم على شكله القديم، إلى حد أن المرء عندما ينظر إلى سيناريو حديث من هوليوود، يظن أنه مطبوع بالآلة الكاتبة، ذلك أن الخطوط التي يُكتَب بها السيناريو على الكمبيوتر (ومعظمها تنويعات على خط courier) حافظت على سمة الآلة الكاتبة، من حيث تساوي حجم الحروف، وتسمى هذه الخطوط Monospaced fonts (خطوط المسافة الواحدة).
عمليًا، يمكن للكاتب أن يكتب السيناريو على أية برمجية مخصصة للكتابة، بما في ذلك برمجيات الملفات النصية البسيطة، مثل Notepad، إذا حرص على عدد الحروف في كل سطر من كل فقرة. ولكن، مع انتشار الحاسب الشخصي، أو الكمبيوتر، ودخوله في كافة تفاصيل حياتنا، ظهرت برمجيات عدة مخصصة لكتابة السيناريو وبعض المراحل اللاحقة له، لتسهِّل على الكاتب العملية، وتُريحه من القلق بشأن شكل صفحة السيناريو وكتابته، ولتجعل جزءًا من عملية التفريغ العام ومواعيد التصوير عمليةً تلقائية تقوم بها البرمجية نفسها. للأسف، لا يدعم أي من هذه البرمجيات اللغة العربية، ولا الشكل العربي للسيناريو، وسنتحدث في هذا لاحقًا. نجد اليوم عشرات البرمجيات المخصصة للسيناريو، ولكن الاختلافات بينها قليلة، وسنستعرض فيما يلي أبرزها.
Final Draft
تُعد برمجية Final Draft (وترجمتها الحرفية “النسخة النهائية”) أشهر برمجيات كتابة السيناريو، وهي الأكثر استخدامًا في هوليوود للسينما والتلفزيون. بدأت البرمجية انتشارها منذ التسعينيات، ونجد على الموقع الإلكتروني الخاص بالشركة شهادات من مخرجين ومنتجين وكتاب مشهورين استخدموا البرمجية. تتميز البرمجية بسهولة استخدامها، حيث يمكن للكاتب أن يكتب فيلمًا كاملًا، ويتنقل بين عناصر المشهد وفقراته (عنوان أو ترويسة المشهد، الشخصية، الحوار، الحالة، القطع أو الانتقال إلى مشهد جديد) باستخدام زرّي Tab وEnter أو Return على لوحة المفاتيح فقط. كما تتضمن البرمجية العديد من الأدوات لتصحيح الأخطاء التي يمكن للكاتب أن يسهو عنها، سواء في الإملاء أم في صيغة الكتابة. تتضمن البرمجية كذلك أدوات وميزات عديدة للمراجعة وإضافة التفاصيل الإنتاجية والإخراجية على السيناريو الأول، بالإضافة إلى إصدار “تقارير” حول أماكن التصوير والشخصيات وزمن المشاهد. تواجه البرمجية انتقادين أساسيين، الأول هو غلاء ثمنها، حيث يبلغ ثمن النسخة منها نحو 250 دولارًا أمريكيًا، والثاني أنها تعمل على نظامَي تشغيل ويندوز وماك فقط، مهملةً أنظمة التشغيل القائمة على لينوكس (مثل أوبونتو وفيدورا وغيرهما). وذكر عدد من المستخدمين أن البرمجية لا تعمل أحيانًا بالسلاسة المطلوبة.
Movie Magic Screenwriter
أصدرت شركة Movie Magic (وترجمتها الحرفية “سحر الأفلام”) برمجيتها Screenwriter (كاتب السيناريو) في زمن مقارب لصدور Final Draft. ويصعب التمييز بين البرمجيتين إلا في تفاصيل الشكل وواجهة المستخدم. ورغم أن الثمن الرسمي لهذه البرمجية مطابق لثمن Final Draft، إلا أن الشركة تكثر من عروض التخفيض. كما تتميز هذه البرمجية بأن شركة Movie Magic تصدر برمجيات أخرى تساعد في تطوير القصة وأنواع كتابة مختلفة، ككتابة القصص المصورة والمسرح، وبرمجية تساعد في وضع الميزانية. لأسباب تسويقية، وأخرى متعلقة بسهولة الاستخدام وبساطة واجهة المستخدم، لم تتمكن برمجية Movie Magic Screenwriter من التغلب على Final Draft في المنافسة، إلا أنها تبقى في المركز الثاني.
Celtx
بدأ مجموعة من المُبرمِجين العمل على برمجيات Celtx لتوفير بديلٍ عن Final Draft وMovie Magic Screenwriter للكُتّاب من مستخدمي أنظمة التشغيل المبنية على لينوكس. وكغيرها من برمجيات لينوكس، كانت النسخ الأولى من برمجيات Celtx مفتوحة المصدر (open source) ومجانية. ولا تزال الشركة تعرض تنزيل وتنصيب برمجيات Celtx للحاسب الشخصي، على أنظمة ويندوز وماك ولينوكس، مجانًا، ولكنها أوقفت دعم البرمجية، ونقلت عملها إلى نظام الاشتراك الشهري، بمستويات متعددة (منها مستوى مجاني ولكنه محدود جدًا). تفتقر برمجية Celtx لكتابة السيناريو إلى العديد من الخصائص والميزات التي تتمتع بها البرمجيات الأخرى، ومن الميزات الغائبة ما هو أساسي لكتّاب السيناريو المحترفين، كإمكانية الكتابة بصيغة الحلقات التلفزيونية، التي تتضمن تقطيعًا خاصًا إلى فصول. إلا أن ما يميز Celtx هو وجود عدة برمجيات مفيدة جدًا في مرحلة التحضير، أو مرحلة ما قبل الإنتاج، كبرمجية Scout المخصصة لتنظيم استطلاع مواقع التصوير، وبرمجية Storyboard المخصصة لإعداد ما يعرف بلوح القصة. رغم الجهود الكبيرة التي يبذلها فريق Celtx، لم تنجح مجموعة البرمجيات هذه في دخول سوق المحترفين بقوة، ولكنها مستخدمة على نطاق واسع بين الهواة ومنتجي أعمال الإنترنت القصيرة. يُذكَر أن Celtx توفر إمكانية الكتابة بالأحرف العربية، ولكن الدعم لا يتجاوز ذلك، إذ لا يمكن محاذاة الفقرات من اليمين إلى اليسار، كما لا يمكن الكتابة باستخدام الشكل العربي للسيناريو.
Fade In Professional Screenwriting Software
يقول كاتب السيناريو كنت تسمان إنه طور هذه البرمجية (واسمها مستمد من الكلمة الأولى في كل سيناريو بالإنكليزية، FADE IN، أي ظهور) لسد الثغرات الموجودة في البرمجيات المشهورة مثل Final Draft وMovie Magic Screenwriter وAdobe Story وغيرها. وبالفعل، تحتوي البرمجية على بعض الميزات التفصيلية التي تخلو منها البرمجيات المذكورة. إلا أن ما يميز البرمجية عن منافسيها هو ثمنها المنخفض نسبيًا (حيث لا يعدو ثمنها 50 دولارًا أمريكيًا) وتوافقها مع كافة أنظمة التشغيل (بما في ذلك تطبيقات لهواتف أندرويد وآيفون)، بالإضافة إلى أناقة واجهة المستخدم وتنظيمها بحيث لا تشوِّش كثيرًا على الكاتب.
برمجيات الكتابة باللغة العربية
ظهرت محاولات بسيطة لتطوير برمجية لكتابة السيناريو باللغة العربية، ولكنها لم تكتمل. وحتى اليوم، يستخدم معظم كُتّاب السيناريو العرب برنامج مايكروسوفت وورد، وقوالب يعدونها بأنفسهم أو بمساعدة أصدقاء، لكتابة السيناريو. وحتى اليوم، لا يبدو أن في الأفق خيارًا سوى استخدام برامج معالجة الكلمات (Word processors) مثل مايكروسوفت وورد أو LibreOffice Writer أو ما شابههما. ولكن تطوير برنامج لكتابة السيناريو باللغة العربية ليس أمرًا مستحيلًا، حيث تختصر البرمجيات مفتوحة المصدر (مثل مجموعة برمجيات LibreOffice) الكثير من العمل على المبرمجين، في حال الرغبة في تطوير برمجية لكتابة السيناريو. ويبدو أن ما يمنع تطوير برمجية احترافية لكتابة السيناريو باللغة العربية هو عدم تضافر الجهود وقلة دعم شركات الإنتاج.
يبقى أن نقول إنه رغم التسهيلات التي تقدمها برمجيات كتابة السيناريو للكاتب، فهي لا تتولى مهمات تطوير القصة وصنع التشويق والإتقان في صياغة الأحداث، إنما هي تساعد الكاتب على التركيز في هذه العناصر. بعبارة أخرى، تبقى الكتابة، كفن وحرفة، مهمة الكاتب بالدرجة الأولى.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024