في المقالة السابقة، تناولنا العناصر الرئيسة في السيناريو، وكيف يشكل التمازج بين الحكاية والحبكة والصراع العنصر الأهم، ألا وهو القصة.
إلا أن هذه العناصر الأربعة، في الواقع، ليست حكرًا على السيناريو، إذ تحتوي كافة أنواع الكتابة القائمة على القصص على هذه العناصر. فالمسرحية والرواية والملحمة والسيرة الشعبية تحتوي هذه العناصر نفسها، كليًا أو جزئيًا. فما الفرق، إذًا، بين السيناريو وفنون الكتابة هذه؟
الكتابة الدرامية والملحمة والسيرة الشعبية
بدايةً، لا بد من التنبه إلى أن التقاطعات بين السيناريو (السينمائي والتلفزيوني وحتى الإذاعي) من جهة، والمسرح من جهة أخرى، أكبر من التقاطعات القائمة بينه وفنون الكتابة القائمة على السرد الملحمي. فالملحمة الكلاسيكية (مثل جلجامش والإلياذة والأوذيسة والإنياذة والمهابهاراتا)، مثلًا، تقوم على سرد حكاية طويلة تمتد أحداثها على سنوات طويلة، وتحتوي شخصيات عديدة، بينها شخصيات أسطورية، وقد تستغرق قراءتها (أو سردها على المستمعين) بنسخها الكاملة شهورًا. وتتشابه الملحمة في ذلك مع السيرة الشعبية المعروفة في منطقتنا (مثل الزير السالم وأبو زيد الهلالي وعنترة والأميرة ذات الهمة). تُروى الملحمة والسيرة الشعبية بالتسلسل الزمني دائمًا، وتتشعب أحداثها وقصص أبطالها. لذلك، تخلو الملحمة الكلاسيكية والسيرة الشعبية من الحبكة. إذ إن أحداثها مرتبطة زمنيًا فقط، لا سببيًا. فإذا قرأنا نسخةً كاملة (أي غير النسخ المختصرة المتوفرة في الأسواق) لإحدى السير الشعبية، وجدنا أن الأحداث غير منتظمة في خط واحد هو رحلة البطل نحو تحقيق هدفه، بل هي سرد زمني لكل ما جرى معه، حسب الحكاية.
في المقابل، يحضر الصراع في السيرة الشعبية والملحمة. ولكنه مختلف اختلافًا كبيرًا عن الصراع الذي نجده في فنون الكتابة الدرامية. فالصراع في السيرة الشعبية والملحمة متفرِّع ومتشعِّب، ويمكننا القول إنه مجموعة من الصراعات العديدة، ينتصر البطل (أو الأبطال) في أحدها، لينشأ صراع آخر. وينتج ذلك عن طبيعة الملحمة والسيرة الشعبية كما وصفناها.
نستنتج إذًا أن أهم اختلاف بين الكتابة الدرامية (ومنها السيناريو) والملحمة أو السيرة الشعبية هو حضور الحبكة وأهميتها في الأولى، وغيابها في الثانية. ونجد أن الأعمال الدرامية، المسرحية والسينمائية، وبدرجة أقل التلفزيونية، التي تناولت ملاحم أو سير شعبية، اختارت غالبًا من مسار الأحداث ما يصنع لها حبكةً واضحة تضبط مسار الحدث. كذلك، تختلف بنية الصراع وطبيعته، أحيانًا، بين الكتابة الدرامية والملحمة أو السيرة الشعبية.
الكتابة الدرامية والكتابة الروائية
نشأت الرواية، كنوع أدبي-فني، قبل السيناريو. إلا أن السيناريو استعار الكثير من عناصره ومكوِّناته من فن بالغ القدم هو المسرح. ولعل ذلك هو السبب في أن الرواية تحررت من الكثير من الضوابط، ما يجعل مقارنتها بالكتابة الدرامية، لاستنباط الاختلافات والتشابهات، أصعب وأعقد من مقارنة الفنون الكلاسيكية بالفنون الدرامية. ونجد في كثير من الروايات عناصر مطابقة لعناصر الفنون الدرامية، من حكاية وحبكة وصراع، بل وتبدو لنا بعض الروايات مبنيةً حسب نماذج درامية كلاسيكية. في المقابل، نجد في روايات عديدة أخرى تشابهات وتقاطعات مع الملحمة، ولاسيما في الروايات الكلاسيكية الشهيرة، من تعدد الشخصيات والحبكات، وامتداد الأحداث لفترات زمنية طويلة.
رغم ذلك، ثمة اختلافان أساسيّان بين الكتابة الروائية والكتابة الدرامية. الاختلاف الأول هو أن الرواية عمل فرديّ، يكتمل مع انتهاء الكتابة. أما كتابة الدراما عمومًا، والسيناريو خصوصًا، فهي مقدمة لعمل جماعي، ولا يمثل انتهاء الكتابة منها إلا بداية رحلة العمل الفني. بعبارة أخرى، ينتهي المشروع الروائي بانتهاء الكتابة، في حين يبدأ المشروع السينمائي أو التلفزيوني بانتهاء الكتابة.
الاختلاف الثاني هو أن الرواية تُكتَب لتُقرأ، أما السيناريو فيُكتَب ليُشاهد. بناءً على ذلك، قد يولي الروائي عنايةً خاصةً لوصف الأماكن أو الأشخاص، بتفاصيل دقيقة ولغة بليغة أو مزخرفة، ويشكل ذلك جزءًا من حرفية الروائي وقيمة عمله. أما في السيناريو، فإن أي وصف للأماكن أو الأشخاص، أو حتى المشاعر، لا يكتسب معنى، لأن النتيجة النهائية للسيناريو ستكون عملًا مرئيًا لا مقروءًا. يمكن لكاتب السيناريو، بالطبع، اختيار تعبيرات أو تراكيب بلاغية معينة حين يشعر أن هذه التراكيب ستُتَرجم، في النتيجة النهائية، إلى صورة مُعبِّرة أو أداء الممثل بشكل معين. ولكن هذه التعبيرات موجَزة، وليس المهم فيها شكلها البلاغي أو الأدبي، بل محتواها الذي سينتقل إلى الصورة.
هذان الاختلافان مهمّان جدًا، ويجب أن يتنبه الكاتب إليهما جيدًا، ولا بد من التأكيد مجددًا أن صفحتين من سيناريو تصفان مكانًا جميلًا بلغة أدبية مزخرفة لا تعنيان شيئًا، لأنهما سيتحولان إلى لقطة واحدة، قد لا يتجاوز طولها الثواني المعدودة، حسب رؤية المخرج.
السيناريو والمسرح
كما أشرنا، ثمة تقاطعات كبيرة بين كتابة السيناريو وكتابة المسرح. ورغم أن المسرح أصبح يُعدُّ أحيانًا نوعًا أدبيًا، إلى جانب كونه فنًا دراميًا، لأن الكثير من المسرحيات يُنشر في كتب ويمكن قراءتها، إلا أن المسرح يبقى فنًا دراميًا في أساسه، ويبقى الهدف الأساس للكاتب المسرحي أن يكتب عملًا ليُشاهَد، مَثَله في ذلك مَثَل كاتب السيناريو.
استعار السيناريو من المسرح معظم أدواته، واستعار منه مفاهيم الحكاية والحبكة والصراع والقصة، بل وبنيته العامة أيضًا، كما سنُبيِّن في مقالات لاحقة. ويبلغ التقاطع والتشابه أحيانًا أننا، في حالات قليلة، نستطيع تحويل مسرحية إلى سيناريو بتعديلات تكاد تكون منعدمة، وفي هذه الحالات يتمثل الاختلاف بين السيناريو والمسرحية في شكل الصفحة وطريقة حساب زمن العرض.
ولكن ظهور السينما أدى إلى تغيير يمكننا ملاحظته في المسرح. فمع انتشار السينما في أوائل القرن العشرين، ظهرت تيارات جديدة في المسرح تبتعد عن الواقعية المُفرِطة في الديكورات والأحداث والحوارات، ذلك أن السينما أصبحت قادرةً على الذهاب إلى الواقع وتصويره مباشرةً، عوضًا عن نقله وتقليده على خشبة المسرح، ولم يلغِ ذلك بطبيعة الحال المسرح الواقعي نهائيًا، ولكنه أتاح انتشار تيارات أخرى.
يمكننا إجمال اختلافات عامة بين السيناريو والمسرح، ولكن يجب التأكيد على أنها اختلافات عامة ولها العديد من الاستثناءات. بشكل عام، تختلف المشاهد في السيناريو بأنها أقصر عادةً، وأقل اعتمادًا على الحوار وأكثر اعتمادًا على الصورة وأداء الممثل. من جهة أخرى، نجد أن الزمن والإيقاع في المسرح أقل انضباطًا منه في السيناريو.
كانت هذه نظرةً عامة على الفرق بين السيناريو وغيره من أنواع وفنون الكتابة، وفي المقالة القادمة سنتحدث عن المشهد السينمائي أو التلفزيوني كأصغر وحدة في السيناريو.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024