بقعة ضوء على السينما المستقلة

12746407_10153833857121181_1661435841_n

من المفرح حقًا لأي سينمائي أن يتناول قضية مهمة، كمسألة السينما المستقلة، لما تنطوي عليه من أهمية إبداعية. وجدير بالذكر أن الكثير من الخلط يشوب تعريف هذا النوع من النتاجات، سيما وأن الكثير من الهواة يعتقدون أنه يتعلق بنوع النتاج «روائي» أو «موسيقي» أو «تجريبي»، أو يدرج المصطلح في زمرة التصنيفات الخاصة بالمدراس السينمائية كالواقعية أو التعبيرية أو السوريالية وغيرها.

واقع الحال أن مفهوم السينما المستقلة يعنى بالأفلام السينمائية المصورة بواسطة الكاميرات الرقمية الحديثة، حاملة الرؤى الذاتية لصناعها غالبًا، غير معتمدة في إنتاجها على الشركات الكبرى الكلاسيكية في تحصيل التمويل الخاص بالإنتاج وبالتوزيع، وهذا ما يتيح لصناعها التحرر الفكري التام من سلطة الرقابة الإنتاجية الصارمة ومن شروط ومتطلبات السوق، ويمنحهم المقدرة على المناورة الفنية وعلى التجريب، دون الخشية من عواقب الخسائر المادية التي قد تترتب على طرح أفلام. وهكذا فمن غير المستغرب ارتباط المفهوم إذًا بمخرجين سينمائيين طامحين لإيجاد لغتهم الخاصة سينمائيًا، لا يتهيبون الخوض حتى الأقصى في حقول التجريب، بغية طرح الأفكار والرؤى دون الاستناد إلى القوالب النمطية التي اعتاد صناع السينما الاعتماد عليها، سواء في الكتابة أو الإخراج. طرحت السينما المستقلة أسماء الكثير من المخرجين الكبار في أمريكا، كجيم جارموش صاحب القطار الغامض وقهوة وسجائر، وروبرت رودريغز، وكوينتن تارانتينو وجيمس وان وغيرهم. ولمعت في أوروبا أسماء مثل نيل بيرغر ومارك ويب وجون فافرو وغيرهم، وساهمت بدفع أسماء بعض المخرجين مثل بيتر جاكسون، صاحب ثلاثية سيد الخواتم وكينغ كونغ نحو عالم الإنتاجات الكبيرة وغيره كثيرون. نلاحظ هنا أن الكثير من مخرجي السينما المستقلة، الذين برزوا كصناع أفلام ذات تكاليف إنتاجية بسيطة، قد انتقلوا نحو صنع أفلام ضخمة الميزانية، وقد حالف بعضهم النجاح في ترسيخ ذكرهم كصناع مهرة مطلوبين من قبل الشركات الكبرى، بينما فشل آخرون، ويبدو أن نجاح الأفلام من فشلها وفقًا لتصنيفات شبابيك التذاكر هو تصنيف غير عادل ودقيق، لأن أغلب الأفلام التي تتخذ من التجريب سمة لها، قد تخيب ظن قاصدي شبايبك التذاكر وطالبي التسلية في الصالات.

كان لابد من تلك اللمحة السريعة جدًا عن حال السينما المستقلة في الغرب عمومًا، لكي نلج إلى حالها في بلادنا العربية، وهذا ما يعنينا بطبيعة الحال. ففي ضوء تراجع الإنتاج السينمائي الكبير الذي تشهده ساحات السينما العربية على مختلف الأقطار والأمصار، نتيجة لعوامل تتعلق بالتمويل من ناحية وبطبيعة الأنظمة الحاكمة التي رأت في السينما الهادفة خطرًا يجب الحد منه من ناحية أخرى، كان لابد أخيرًا من أن تبدأ بوادر هذه النتاجات المهمة بالظهور، ففي مصر بادر يسري نصر الله لتصوير فيلم المدينة بكاميرا رقمية، ثم لحقه خيري بشارة في فيلمه ليلة في القمر، وكذلك محمد خان في كلفتي. وفي لبنان أخرج أسد فولادكار فيلمه لما حكيت مريم، ونال عنه جوائز مهمة.

al-madina

من فيلم “المدينة” للمخرج يسري نصر الله

لاحقًا، باتت الساحة السينمائية الفنية مليئة بنتاجات روائية ووثائقية مهمة، أبرزت الكثير من المواهب. ونظرًا لاختلاف المنابت والمشارب لصناع هذه السينما غير المكلفة، فقد انطوت كل تلك الأعمال على تنوعات عظيمة ومثيرة، ترصد الغنى الحقيقي للمجتمعات العربية، رغم امتلائها بمختلف أنواع الأسى والأوجاع. ورافقت لاحقًا أحداث وتطورات الربيع العربي، فكانت تجارب متسرعة أحيانا، وقوية في أحيان أخرى، كفيلم فرش وغطا الروائي للمصري أحمد عبد الله السيد.

بشرت السينما المستقلة الوليدة ببزوغ نجم عهد جديد من النتاجات الفنية ذات الأهمية الفكرية التي ترفض أي أدلجة حزبية، أو وصاية حكومية، مواكبة بذلك تلك النزعة المطالبة بالحريات والمنادية بمبادئ العدالة والمساواة ومفاهيم الديمقراطية وسيادة القانون، ولاشك بأن هنالك الكثير من العوائق التي تعترض شق مسار سهل المخاض أمام المستقلين، ولعل أبرزها قلة الموارد وعدم النجاح حتى الآن في تشكيل كيانات داعمة مالكة لصالات العرض، أو مهرجانات عربية تتجرأ على قبول أفلام تتخلى عن رصانة التقاليد حتى وإن لم تمهر بشعار مهرجان أجنبي، إضافة لرزوح التجارب المهمة تحت ضغط عجلات الفساد والمحسوبيات لدى محاولة تسويقها أو تقديمها لمهرجانات الصف الأول العربية. غير أن كل هذه الصعاب قد تشكل حافزًا مهما لصناع السينما المستقلة، بصفتها جزءًا لا يتجزأ من الفساد العام الذي يضرب مجتمعات تفتقر حقًا لثقافة السينما كما تفتقر لغيرها من ثقافات الفنون الأخرى، وضاربة عرض الحائط بتقاليد «القهوة والسجائر» القاتلة للوقت.

شارك على:

شارك برأيك

إعلان

جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024

تم إطلاق هذا الموقع بمنحة من

مؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة