لم يكن في نية جيم جارموش أن يكون مثلًا أعلى لكثير من السينمائيين المستقلين، فقد كان صراعه مع نفسه أكبر من كل شيء. عام 1984، أي بعد فيلمه الأول إجازة دائمة Permanent Vacation بعامين –الذي لم تتجاوز ميزانيته 15 ألف دولار أمريكي– أنهى جارموش فيلمه الثاني أغرب من الجنة Stranger Than Paradise. شارك جارموش بالفيلم في مهرجان كان، أحد أهم مهرجانات المعمورة، ليفرض حضورًا متميزًا للسينما الأمريكية المستقلة. وبعد إعلان فوز الفيلم بجائزة الكاميرا الذهبية اتجهت أنظار المنتجين والممولين وأصحاب الاستديوهات في هوليوود نحو هذا القادم الجديد.
بفوزه بهذه الجائزة، مهّد جارموش –الذي تأثر بكبار مخرجي الموجة الفرنسية الجديدة مثل نيكولاس راي وجان لوك غودار وفرانسوا تروفو– طريقًا طويلًا وغنيًا للسينمائيين الذين اختاروا الاستقلال عن هوليوود وأفلامها ذات الإنتاج الضخم. ولعل ذلك امتداد للسينما الأوروبية –والواقعية الإيطالية والتعبيرية الألمانية على وجه الخصوص– التي فرضت للسينما بعدًا فكريًا إلى جانب كونها فنًا ترفيهيًا.
بعد أغرب من الجنة، تابع جارموش صناعة الأفلام، الواحد بعد الآخر، مساهمًا بموهبته السينمائية الكبيرة في ترسيخ أُسس للسينما المستقلة، ستسير عليها أجيال لاحقة لتصنع سينماها الخاصة. فمن رجل ميت Dead Man إلى زهور مكسورة Broken Flowers ولم يبقَ على قيد الحياة إلا العشاق Only Lovers Left Alive، صاغ جارموش، ابن الغرب الأمريكي، لغته السينمائية بمفردات خاصة تبتعد عن الصياغات التقليدية لسرد الحكاية والجماليات البصرية، وحافظ على استقلاليته التامة عن الإنتاج الهوليوودي، رغم سعي هذا الأخير وراءه. وتتالت الجوائز التي أثبت الكثير منها دقة وصحة خيار جارموش بعدم الخروج عن خط السينما المستقلة.
لم تكن هذه الاستقلالية السينمائية، إذًا، مرحليةً ومؤقتة. يسود اعتقاد أن السينمائيين يختارون السينما المستقلة كمرحلة بداية يثبتون فيها قدراتهم الإخراجية، وهذه المرحلة أشبه بعمل إجباري بانتظار أن تطلب استديوهات هوليوود الكبرى موهبة المخرج الذي بدأ مستقلًا. ولعل هذا ينطبق على بعض المخرجين المعروفين، أبرزهم روبرت رودريغيز. أما جيم جارموش (وعدد من المخرجين المستقلين اللامعين) فالأمر عنده خيار فني وإبداعي لا تنازل عنه، إذ لم يعبأ هذا السينمائي الخاص، في لغته وتعبيره، بعروض هوليوود ومغرياتها.
ولعل في هذا درس مهم، فالسينما المستقلة في جوهرها مشروع نبيل صنعه الرواد المستقلون ليكسروا القيود التي حوّلت السينما إلى تجارة رائجة، وتبعث فيها روحًا تدافع عن الإنسان وتسعى إلى التعبير عن همومه، بدل تخديره، وتنجز ذلك باستكشاف عوالم جمالية جديدة، وسرديات روائية مختلفة عن السائد.
وهكذا كانت السينما في بداياتها. فقد اندفع السينمائيون بفطرتهم الأولى إلى الاستقلال، قبل أن تتنبه المؤسسات الكبيرة إلى أهميتها وقدرتها على جني الأموال والتأثير في الجموع وتعبئتها. إلا ن الصراع استمر. ففي الغرب عمومًا، والولايات المتحدة خصوصًا، ناضل السينمائيون المستقلون للخروج عن التقاليد التجارية. وفي الاتحاد السوفييتي، نشأت سينما مستقلة خارج الإطار الإيديولوجي الصارم الذي حد من حرية المبدعين وعملهم. وفي بلداننا العربية، يصارع السينمائيون لكسر قيود الرقابة والاستقلال عن الإنتاج الرسمي.
السينما المستقلة لدى مؤسسيها هي قضية ككل القضايا التي يُناضل من أجلها. ليست حلًا مؤقتًا بل مشروعًا ينخرط في النضال الأوسع لنيل الحرية.
وجود جيم جارموش، والسينمائيين الذين اختاروا الطريق نفسه، يطمئننا إلى استمرار هذا الهامش من الحرية الإبداعية، وأن هذا المشروع النبيل لن ينطمس تحت تأثير رأس المال ورقابة الطغيان.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024