بعد ثلاث سنوات من اختراع الأخوين لوميير عرض الصورة المتحركة على الشاشة، ناقش المؤتمرون في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 بقيادة ثيودور هرتزل في مدينة بازل السويسرية استثمار اختراع السينما لخدمة هدف المؤتمر بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. فأقر بإحدى توصياته باستثمار هذا الفن كاستراتيجية صهيونية تسعى لتطوير اللجان السينمائية لتقوم بالترويج للدعوة إلى إقامة وطن القومي لليهود على أرض فلسطين، فيما يمكن اعتباره أول استخدام لفن السينما كدعاية سياسية، وسلاح ساهم في تسويق تشريد شعب من أرضه على أنه استيطان يهدف لتعمير الأرض الجرداء الخالية.
وبالنسبة للفلسطينيين، بدا أنّ إدراكهم متأخرًا لأهمية السينما في الستينيات كسلاح مقاومة، نتيجة حالة الشتات بطبيعة الحال، وتأسيس كيان سياسي يُمكنُ أن يتبنى مشروعاً سينمائياً. وقد تحقق ذلك المشروع بقرار سياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي قامت بدعم مشاريع سينمائية لمخرجين عرب، كان أحدهم المخرج العراقي قاسم حَوَلْ الذي فرَّ من بطش الديكتاتور العراقي إلى بيروت، ليعمل في سينما الثورة الفلسطينية، منذ سبعينات القرن الماضي، وقدم عدة أفلام تسجيلية قصيرة هامة، مثل النهر البارد عام 1978، وصبرا وشاتيلا عام 1984، والفيلم الروائي الطويل عائدٌ إلى حيفا عام 1982، بدعم من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عن رواية غسان كنفاني، والذي اعتبر أول فيلم روائي فلسطيني طويل.
ساهم قاسم كذلك في تأريخ السينما الفلسطينية، واكتشف صدفة أن أحد مخرجي الثلاثينيات الذي أنتج عددًا من الأفلام التسجيلية والقصيرة لا يزال على قيد الحياة، حيث التقاه في مخيم الداعوق، في بيروت، وأجرى معه حوارات مطوّلة، مقدمًا عبرها شهادات تاريخية عن ولادة السينما الفلسطينية في فلسطين قبل النكبة، لم تكن قد كُتبت ولا وُثّقت من قبل، وسعى لتقديمه للعالم وتكريمه، من خلال منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحضر أمينها العام الدكتور جورج حبش لتكريمه.
يروي قاسم حَوَلْ في كتابه حول السينما الفلسطينية أنه في آذار عام 1974 وبينما كانوا يعرضون أفلاماً سينمائية في مخيم شاتيلا، أخبرهم أحد الحاضرين عن رجل يدعى إبراهيم حسن سرحان يعمل سمكريًا، وكان مخرجًا ومصورًا في وقتٍ من الأوقات، فذهب إلى بيت السمكري، المخرج سابقًا!
قبل لقاء قاسم حول بسرحان لم يكن هنالك الكثير لدى الباحثين عن بدايات السينما الفلسطينية، باستثناء معلومات بسيطة عن أن هنالك رجل اسمه إبراهيم سرحان صور في فلسطين زيارات الملوك والرؤساء العرب.
مغامرة السينما
كان إبراهيم حسن سرحان في ثلاثينيات القرن الماضي، شابًا في التاسعة عشرة، حين أخذه فضوله لدخول مغامرة السينما، وككل الرواد، اتخذت أفلامه الأولى الطابع التسجيلي، فكان فيلمه الأول يحتوي مشاهد نادرة عن فلسطين في تلك الحقبة، كما صوّر وقائع زيارة الملك عبد العزيز آل سعود إلى فلسطين عام 1935، وطيلة السنوات العشر اللاحقة، تابع سرحان تسجيل الكثير من اللقطات التوثيقية، إلى أن جاءت زيارة أحمد حلمي باشا عضو الهيئة العربية العليا، فصوّر سرحان فيلمًا عن الزيارة في الساعة الثالثة وعرضه في الساعة السادسة مساءً، ما أثار إعجاب الموفد، فأعطاه مبلغ 300 جنيه فلسطيني. دفع هذا المبلغ سرحان إلى الاستطراد في أحلامه، وبهذا المبلغ تمكّن من افتتاح استديو فلسطين، وهناك صنع بيديه طاولة بدائية للمونتاج والموفيولا. فكبرت أحلامه، وحاولَ أن ينتج فيلمًا روائيًا بعنوان عاصفة في بيت. لاحقًا انضم إليه شريك إنتاج آخر، لكن خلافات المنتجين حالت دون إنهاء الفيلم، ليواصل إبراهيم تصوير الأفلام التسجيلية والدعائية حتى عام 1948.
كما أخبر سرحان قاسم حول بأنه بعد أن هاجر إلى الأردن بعد نكبة 1948، شارك في أول فيلم أردني طويل بعنوان صراع في جرش عام 1958، قبل أن يذهب إلى لبنان بعدها ويقرر أن يترك السينما ويعمل سمكريًا.
تعكس مغامرة سرحان الشاب، صورةً عامة عن المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت، وعن طبيعة الحياة في يافا في الثلاثينيات وعلاقة المجتمع اليافاوي بالسينما، وأماكن العروض السينمائية فيها مثل سينما الحمراء، التي غنت على مسرحها أم كلثوم عام 1937 أغاني فيلم نشيد الأمل، كما كانت تزدهر فيها الصحافة السينمائية المختصة مثل جريدة الرياضة والسينما التي صدرت في مدينة القدس عام 1935، ومجلة الأشرطة السينمائية عام 1937 وكانت أسبوعية تصدر بالعربية والإنجليزية وتوقفت بسبب الأوضاع السياسية التي سادت ثورة 1939، وهي الفترة التي تعرقلت فيها أيضًا مشاريع سرحان، على ما يبدو.
لم يبقَ اليوم شيء يذكر من أرشيف سرحان الذي احترق بقصف بيته في حرب المخيمات في لبنان في الثمانينيات، وما تبقى من أرشيف إما صادره الإسرائيليون أو ضاع بسبب الشتات وتدمير المؤسسات، ولذلك سعى باحثون وأدباء ومخرجون فلسطينيون لوضع تصورات عن تلك المرحلة بطرق مختلفة، حيث يبحث المخرج الفلسطيني علاء العلي من برج البراجنة ويقيم في السويد عمّا تبقى من آثار سرحان في فيلم وثائقي يعمل على على إنجازه، عبر البحث في الأرشيف الفلسطيني المُصادر لدى الإسرائيليين، والأرشيف السينمائي الأردني، ومواقع أخرى يتوقع أن يجد فيها ما يمكن أن يكون أرشيفًا صوره سرحان.
أما الروائي والسينمائي الفلسطيني المقيم في دبي تيسير خلف، فلجأ إلى التوثيق الروائي، الذي يمزج فيه المتخيل مع الواقعي. ففي روايته موفيولا، أعاد بناء سياقات روائية متخيلة لشخصيات حقيقية من بينها إبراهيم سرحان والمخرج محمد صالح الكيالي، وشخصيات أخرى ارتبط بها مثل ذي الكفل عبد اللطيف، والحاج أمين الحسيني، وأحمد حلمي باشا، وعبد القادر الحسيني، وعبد الرحيم محمود، وجمال أصفر، وخميس شبلاق وآخرين.
اليوم، وبعد ما يزيد على ثمانين عامًا من ولادة السينما الفلسطينية على يد رائدها سرحان، وفقدان أرشيف ولادتها الأولى في فلسطين، تحوي مكتبتها ما يزيد على 400 فيلم روائي طويل، وأضعاف ذلك من الأفلام التسجيلية والقصيرة، ابتداءً من الفيلم الروائي الطويل الأول، عائد إلى حيفا لقاسم حول، الذي جاء في الولادة الثانية للسينما الفلسطينية التي تأسست بعد النكبة في الشتات، مرورًا بأول فيلم روائي يصور في فلسطين، عرس الجليل، لميشيل خليفي عام 1987، في ما اعتبر ولادة ثالثة للسينما الفلسطينية، مطلقًا بذلك شرارة صناعة سينما فلسطينية جديدة تحمل خصوصيتها، وتنافس في مهرجانات السينما العالمية، صانعوها يتوزعون بين الداخل الفلسطيني والشتات، يصنعون سينما تشبه شعبهم.
إعلان
جميع الحقوق محفوظة لشركة تحت الـ35 © 2024